محتويات المقال
نسب الحمل الناشئ أثناء الخطبة
بتقنين مدونة الأسرة ، تبنى المشرع المغربي رأي الفقيه محمد الجواد الصقلي الحسيني، و مناصريه في هذا المضمار وذلك بالتنصيص في المادة 156 من مدونة الأسرة ، على أنه: ” إذا تمت الخطوبة وحصل الإيجاب والقبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج، و ظهر حمل بالمخطوبة ينسب للخاطب للشبهة إذا توفرت الشروط التالية:
إذا اشتهرت الخطبة بين أسرتيهما ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء.
إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة.
إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما.
تتم معاينة هذه الشروط بمقرر قضائي غير قابل للطعن.
إذا أنکر الخاطب أن يكون الحمل منه أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب”.
فهذه المادة تخول إثبات النسب للحمل الناشئ أثناء الخطبة بالشروط التي حددتها أعلاه.
غير أنه وبإمعان النظر في محتوي هذه المادة يتضح مدى الارتباك الحاصل في صياغتها، فضلا عن تداخلها وتعارضها مع مقتضيات العديد من مواد المدونة ذاتها
فتارة تتحدث عن خطبة، وأخرى عن زواج حالت ظروف قاهرة دون توثيقه، وتارة تصف المرأة فيها بالزوجة وأخرى بالخطيبة
و القراءة المتأنية لمقتضيات هذه المادة تضعنا أمام احتمالين:
الأول : أن المادة تتحدث عن حالة قيام علاقة زواج مستجمعة لكافة عناصرها باستثناء الصداق والتوثيق، فيكون الإيجاب والقبول الذي تحدثت عنه المادة منصبا على الزواج الذي حالت ظروف قاهرة دون توثيقه. وهو ما توحي به عبارات من قبيل :” وحصل الإيجاب و القبول”، و “وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج “و “ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء “
الثاني أن المادة تتحدث عن الخطبة وهو ما توحي به عبارات: “وظهر حمل ينسب للخاطب”، و”إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة”، و”إذا أقر الخطيبان”، فلم يتحول الخاطب إلى زوج ولم تتحول المخطوبة إلى زوجة، رغم حصول الإيجاب والقبول وحيلولة ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج.
وقد أدى ما ذكر إلى خلاف جذري في تأويل وتنزيل مقتضيات هذه المادة بين أهل الفقه و رجال القضاء، وفي تحديد أساس الشبهة التي يثبت بها النسب بمقتضاها
وسوف نتناول بالدرس هذه المسألة من خلال مطلبين نتناول في الأول التكييف الفقهي و القانوني لهذه المادة، و نتحدث في الثاني عن أساس الشبهة المنصوص عليها فيها و عن موقف الفقه و القضاء من الشروط الواردة فيها
المطلب الأول: التكييف القانوني لمقتضيات المادة 156
يتأرجح التكييف الفقهي و القانوني لمقتضيات هذه المادة بين الزواج غير الموثق و الخطبة، حيث يذهب اتجاه فقهي و قضائي ، وهو الغالب، إلى أن الأمر يتعلق بزواج صحيح لا ينقصه سوى التوثيق. بينما يذهب اتجاه مقابل إلى أن الأمر لا يتعلق سوى بمجرد خطبة، قد تكون في أحسن الأحوال خطبة من نوع خاص.
وقد سبقت الإشارة إلى دور الارتباك الحاصل في صياغة هذه المادة ، وكذا تداخل مقتضياتها وتعارضها مع مقتضيات العديد من مواد المدونة، في الخلاف القائم بهذا الشأن فقها و قضاء.
غير أن تفسير محل الإيجاب و القبول المذكورين في المادة، هو أهم الأسس التي يبني عليها كل فريق رأيه وينتصر به لمذهبه في المسألة، وسنعرض لكلا الموقفين على النحو الآتي:
البند الأول: التكييف على أساس الزواج غير الموثق
ذهب أغلب الفقه إلى أن المادة تتحدث عن حالة قيام علاقة زواج مستجمعة لكافة عناصرها باستثناء الصداق والتوثيق، فيكون الإيجاب والقبول الذي تحدثت عنه المادة منصبا على الزواج الذي حالت ظروف قاهرة دون توثيقه.
وفي هذه الحالة فإننا نكون إزاء زواج تفويض لم يسم فيه المهر ولم يتم توثيقه، وهو زواج يثبت به النسب دونما حاجة إلى الشبهة. خاصة وأن المدونة لم تشترط تسمية الصداق واكتفت بالتنصيص على عدم الاتفاق على إسقاطه من جهة، وتماشيا مع المستقر عليه في المذهب من كون الإشهاد شرطا في الدخول لا في العقد، والنسب يثبت وإن حصل الدخول من غير إشهاد، من جهة ثانية.
ويرى هذا التيار أن الإيجاب و القبول المذكورين في هذه المادة منصبان على إرادة إنشاء عقد الزواج، فنكون أمام زواج صحیح حالت ظروف قاهرة دون توثيقه، فيثبت به النسب للشبهة بتوفر الشروط المذكورة في المادة وينتفي بانتفائها.
البند الثاني: التكييف على أساس الخطبة
في مقابل الموقف الأول يعتبر بعض الباحثين و منهم بعض قضاة الموضوع الممارسين بأقسام قضاء الأسرة، أن الإيجاب و القبول في هذه المادة منصبين على إرادة إنشاء الخطبة في حد ذاتها كدلالة على تمام الخطبة، وفي ذلك يقول أحدهم: “إذا كان مشرع المادة 156 قد راعی توجیه قواعد النسب من التيسير، وعمد للبحث عن مصلحة الأبناء في أن لا يحرموا من رابطتهم بآبائهم رابطة شرعية حتى عند الخطبة فإنه حدد لذلك فروضا و أوجب شروطا لا يثبت النسب بدونها، ونجملها في تمام الخطبة… بتبادل الإيجاب والقبول…، والخطبة لا تعتبر متحققة في غياب تبادل الإيجاب والقبول، إيجاب يمثل وعدا بالزواج و قبولا به،… لأجل ما ذكر فإن تبادل الإيجاب والقبول لا يفترض فيهما ما يفترض في عقد الزواج،… وما توصلنا إليه يساندنا فيه ما نص عليه مشرع المدونة نفسه في المادة السادسة منها أنه: “يعتبر الطرفان في فترة خطبة إلى حين الإشهاد على عقد الزواج”
و ما أشار إليه هذا الباحث من كون الخطبة لا تعتبر متحققة في غياب تبادل الإيجاب و القبول – وإن كان غير مسلما به على إطلاقه، اعتبارا لتحقق الخطبة لغة و عرفا بمجرد إيجاب الخاطب- ، فهو لا ينطبق على مفهوم الخطبة وفق مقتضيات مدونة الأسرة عموما، ولا على مفهوم تمام الخطبة وفق مقتضيات المادة 156 على وجه الخصوص.
إذ إن تعريف الخطبة بمقتضى المادة 5 من المدونة بالتواعد، يفيد تطابق الإرادتين بتبادل الإيجاب و القبول. فيكون مجرد إطلاق لفظ الخطبة دون ذكر التمام في المادة 156 ، كاف للدلالة على حصول الإيجاب و القبول.
أما و الحال أن المشرع قرن الخطبة في هذه المادة بالتمام بالقول: “إذا تمت الخطوبة”، باعتبار التمام تعبيرا عن قبول الطرف الثاني بعد إيجاب الأول. فإن ذلك يفيد قطعا قیام الإيجاب و القبول، ويغني عن ذكرهما و التأكيد عليهما بعد ذلك، لأن الخطبة لا تصير تامة إلا بحصولهما.
واعتبارا لكون المادة تتحدث عن حصول الإيجاب و القبول بعد تمام الخطبة، بقولها: ” إذا تمت الخطوبة و حصل الإيجاب والقبول…”، فلا يمكن القول إلا أن حصول الإيجاب و القبول يتجاوزان مرحلة الخطبة، ولا يتعلقان بها.
وما ذكره من السند بشأن مقتضيات المادة السادسة من المدونة بقولها: “يعتبر الطرفان في فترة خطبة إلى حين الإشهاد على عقد الزواج”، وإن كان حقيقة بادية للعيان ، فإنه لا يمكن أن يحجب حقيقة أخرى تحد سندها في مقتضيات الفقرة الأولى من المادة الخامسة من المدونة التي تعرف الخطبة بالتواعد بقولها:” الخطبة تواعد رجل و امرأة على الزواج”، مفاد هذه الحقيقة أن الإيجاب و القبول المذكورين في المادة 156 يتجاوزان مرحلة الخطبة ولا يتعلقان بها .
و يذهب بعض الباحثين، إلى حد القول أن هذا الإشكال لا ينبغي طرحه أساسا لأن المادة تتحدث من بدايتها إلى نهايتها عن الخطبة و لا مكان فيها للزواج، و أن أي تفسير يتبنى رأيا مخالفا ، هو تفسير مغالي فيه و يحمل النص أكثر من دلالته وطاقته
ولا ندري عن أي دلالة يتحدث هذا الباحث، فالدلالة اللغوية و القانونية فضلا عن الشرعية و المنطقية، لا تفيد سوی ارتباط الإيجاب و القبول بالزواج، أو على الأقل لا تفيد مطلقا ارتباطهما بالخطبة.
لأن دلالة مصطلح الخطبة في مفهوم مدونة الأسرة، فضلا عن دلالة تمامها في اصطلاح الفقه القانوني، يعني في حد ذاته قيام الإيجاب و القبول، دونما حاجة إلى تأكيدهما بالنص. وإلا لكان تعريف المدونة للخطبة بالتواعد غير ذي معنى ولا دلالة له، و لكان تمييز الفقه للخطبة المجردة عن الخطبة التامة، مجرد لغو و ترف فقهي ليس إلا.
فتعريف المدونة كما أسلفنا للخطبة بقولها في الفقرة الأولى من مادتها الخامسة: “الخطبة تواعد رجل وامرأة على الزواج ، يعني قيام الإيجاب و القبول، لأن التواعد يكون بين طرفين بصدور إيجاب من طرف وقبول من آخر.
وهو ما يؤكده تعريف الأستاذ أحمد الحمليشي للخطبة حتى في ضل مدونة الأحوال الشخصية الملغاة و التي لم تعرف الخطبة سوى بالوعد، بقوله:” عرض الرجل رغبته في الزواج من امرأة و عدم رفض هذه الأخيرة للعرض، و تواعدهما على إبرام عقد الزواج الرسمي.”
فتكون المادة 156 و الحالة ما ذكر متضمنة لثلاثة أزواج من الإيجاب و القبول، أحدها مصرح به، و الثاني و الثالث مستتران، أحدهما يتضمنه مفهوم الخطبة وفق تعريف المدونة، و الثاني يفيده تعريف الفقه لتمامالخطبة.
وهذا يعني، أن الإيجاب و القبول الواردين في المادة، يتجاوزان مرحلة الخطبة و يتعلقان بشيء آخر غيرها، أي الزواج الذي حالت ظروف قاهرة دون توثيقه . وهو ما تؤكده واو العطف التي ربط بها المشرع بين تمام الخطبة و بين الإيجاب و القبول في ذات المادة.
و يؤيد الأستاذ أنس سعدون في موقف متذبذب (30) هذا الرأي الأخير ، قائلا:” ويبدوا أن هذا الرأي الأخير هو الأقرب للصواب إذ ينسجم مع إرادة المشرع التي اتجهت للاعتراف بنسب الأطفال المزدادین خلال فترة الخطبة .”(31)
غير أن تبرير هذا الباحث للموقف بالانسجام مع إرادة المشرع المنصبة في هذا الشأن على الاعتراف بنسب الأطفال المزدادين خلال فترة الخطبة، لا ينهض حجة للانتصار لهذا الرأي، لأن إرادة المشرع بهذا الشأن لا تشمل سوى نسب الأطفال المزدادين في إطار الزواج غير الموثق لأسباب قاهرة.