محتويات المقال
مبادئ التنظيم القضائي المغربي
يقوم التنظيم القضائي المغربي على غرار أغلب الأنظمة القضائية المقارنة على جملة من المبادئ الأساسية التي تمكن السلطة القضائية من القيام بوظيفتها بكل حرية واستقلال و تجرد من جهة ، و التي تخول من جهة أخرى الضمانات الكافية للمتقاضين بما يؤمن محاكمة عادلة و يضمن الحماية من تعسف الدولة و القضاء من جهة ثانية. و سنتطرق لأبرز هذه المبادئ من خلال تصنيفها صنفين : المبادئ مقررة لضمان حسن سیر العدالة، والمبادئ مقررة لضمان حسن اقتضاء الحقوق.
الفقرة الأولى: المبادئ المقررة لضمان حسن سير العدالة
أولا: مبدأ استقلال القضاء
يعد مبدأ استقلال القضاء مبدأ عالميا نصت عليه المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما تم تقعيده في الدستور المغربي ، إعمالا لمبدأ فصل السلط، من خلال الفصل 107، بالقول : ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية . الملك هو الضامن الاستقلال السلطة القضائية”.
و مقتضى هذا المبدأ أن تتمتع السلطة القضائية بالاستقلال التام عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. بما يضمن عدم تدخل أي من السلطتين في وظيفة القضاء بأي شكل من الأشكال. فلا يخضع القاضي لأوامرها أو تعليماتها، أو حتى توجيهاتها، ضمانا لحياده و استقلاله و تجرده في عمله.
كما يقتضي هذا المبدأ تحصين القاضي من الضغوطات المادية و المعنوية، و عدم السماح بالتأثير عليه بأي شكل من الأشكال، كما تنص على ذلك المادة 105 من الدستور بالقول: ” يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط ” .
و تحقيقا لهذه الحصانة القضائية فلا يجوز نقل القضاة ولا عزلهم إلا بمقتضى القانون ، كما لا يجوز تعطيل تنفيذ الأحكام التي يصدرها القضاء من حيث المبدأ ، إلا إذا كان الحكم سينتج عنه الإضرار بالأمن العام أو النظام.
وفي المقابل لا يحق للسلطة القضائية أن تتجاوز صلاحياتها و اختصاصاتها، ولا أن تتدخل في اختصاصات السلطة التشريعية، كأن تستحدث نصوصا تشريعية أو أن تعطل العمل بالقائم منها. ولا أن تتخل في صلاحيات و اختصاصات السلطة التنفيذية، أو أن تعمل على عرقلة نشاطاتها دون وجه قانوني.
ثانيا: مبدأ وحدة و ازدواجية القضاء
ينصرف معنى هذا مبدأ وحدة القضاء إلى ضرورة اعتماد جهة قضائية وحيدة في الجهاز القضائي للدولة، متمثلة في القضاء العادي. يمثل أمامه الجميع، أشخاصا طبيعيين كانوا أو اعتباريين بما في ذلك شخص الدولة. كما ينصرف هذا المبدأ، من جهة ثانية إلى تأكيد المساواة أمام القضاء بين جميع شرائح المجتمع.
فعلاوة على ضرورة وحدة المحاكم التي يمثل أمامها المتقاضون، يقتضي مبدأ المساواة توحيد القواعد الموضوعية و الإجرائية المطبقة عليهم، بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية، ودون تمييز لا على أساس اللغة، ولا على أساس الجنسية، ولا على أساس الديانة.
أما مبدأ ازدواجية القضاء فيعني تخصيص قضاء إداري، للبت في القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها، بصفتها صاحبة سلطة وسيادة و امتیاز، إلى جانب القضاء العادي الذي ينظر في مختلف القضايا ذات الطابع العادي. فنكون بصدد الحديث عن قضاء مزدوج عادي و إداري.
ويعتبر مبدأ وحدة القضاء من المبادئ التي تأخذ به كثير من القوانين المقارنة، في حين تعتمد بعض الأنظمة مبدأ ازدواجية القضاء كما هو الحال في فرنسا و مصر، حيث نجد نظاما مزدوجا يقوم على وجود قضاء عادي على مستوى محاكم الموضوع و النقض، و قضاء إداري على مستوى محاكم الموضوع و النقض.
أما في المغرب فبعد أن كان مبدأ وحدة القضاء هو السائد، فإنه صار منذ إحداث المحاكم الإدارية و محاكم الاستئناف الإدارية ، يعتمد مبدأ ازدواجية القضاء على مستوى قضاء الموضوع، و مبدأ الوحدة على مستوى محكمة النقض.
ثالثا : مبدأ القضاء الفردي و القضاء الجماعي
يقصد بمبدأ القضاء الفردي، أن الدعاوى المعروضة على المحكمة ينظرها قاض منفرد، يتولى القيام بجميع الإجراءات الكفيلة بتجهيز الملف و مناقشته و إصدار الحكم بشأنه. فيتتبع بمفرده كافة أطوار النزاع منذ عرضه في أول جلسة إلى حين البت فيه. ويشكل هذا المبدأ أساس القضاء في النظام الأنكلوساکسوني.
أما القضاء الجماعي ، فالمقصود به أن القضايا المعروضة على المحكمة، يتم نظرها من طرف هيئة قضائية جماعية مشكلة من قضاة متعددين، يتتبعون سائر أطوار القضية و يشاركون في مناقشتها و التداول بشأن الحكم فيها. و هذا المبدأ هو القاعدة في النظام اللاتيني الجرماني.
ولكل من النظامين إيجابيات وسلبيات، إذ يمتاز نظام القضاء الفردي بكونه يحمل القاضي على التأني والتروي في دراسة الملف المعروض عليه، لشعوره بالمسؤولية الكاملة الملقاة على عاتقه مما يجعل حكمه أقرب ما يكون إلى الصواب , إضافة إلى كونه نظاما يمتاز بالسرعة في الفصل في المنازعات، وإصدار الأحكام والتقليل من العدد اللازم من القضاة ومن المصاريف و النفقات التي يقتضيها ذلك .
وبالمقابل لا يخلوا القضاء الفردي من سلبيات تتمثل على سبيل المثال؛ في انعدام التشاور و التداول وتبادل الرأي بشأن القضايا موضوع النزاع، الأمر الذي قد يؤدي إلى وقوع القاضي خاصة متى كان مبتدئا في بعض الأخطاء التي قد تجعل حكمه مجانبا للصواب، فضلا عن إمكانية التأثير عليه و توجيه أحكامه.
أما القضاء الجماعي فإنه بسبب ما يتيحه من تداول للآراء وتبادل وجهات النظر بين أعضاء هيئة الحكم، وما يشكله أيضا من ضمانات بعد القضاة عن التأثير والتأثر بالعوامل الخارجية نظرا الإحساس كل منهم برقابة زميله، و لصعوبة التأثير على هيئة بأكملها، فإن الأحكام الصادرة عنه غالبا ما تكون أكثر دقة وصوابا مقارنة بالقضاء الفردي.
ومع هذا فلا يخلوا من عيوب لعل أبرزها البطء في إصدار الأحكام؛ وكثرة التكاليف واتكال القضاة على بعضهم البعض مما يمنعهم من الاجتهاد.
و هذا ما حدا ببعض الدول إلى المزاوجة بين النظامين، فيعمل بعضها بنظام القضاء الفردي في المحاكم الصغرى و بالنظام الجماعي في المحاكم الكبرى، و يعمل البعض بنظام القضاء الفردي بالنسبة للقضايا البسيطة و النظام الجماعي للقضايا المهمة، فيما يعتمد البعض معيار حجم القضايا في إعمال النظامين داخل المحكمة الواحدة.
أما المشرع المغربي، فقد عرف موقفه تأرجحا في الأخذ بهذا المبدأ في القضايا المدنية كما في القضايا الزجرية ، فتارة يأخذ بمبدأ القضاء الفردي كما هو الحال بعد صدور ظهير 1974، وثارة يجعل القضاء الجماعي هو القاعدة والفردي استثناء كما هو الحال في ظل ظهير 10-08-1993.، قبل أن يستقر على كون مبدأ القضاء الفردي هو القاعدة، أمام محاكم الدرجة الأولى العادية، ومبدأ تعدد القضاة هو الاستثناء مع ظهيري 11-11-2003 و 17-08-2011. أما المحاكم المتخصصة و محاكم الاستئناف وكذا محكمة النقض، فلا يعمل فيها بغير القضاء الجماعي ما لم يتعلق الأمر بالاختصاصات المسندة لرؤسائها.
الفقرة الثانية: المبادئ المقررة لضمان حسن اقتضاء الحقوق
أولا: مبدأ مجانية القضاء والمساعدة القضائية
تجسيدا لمبدأ كون العدالة تمنح من غير مقابل، و تكريسا لمبدأ التزام الدولة في تصريف العدالة مقابل وضع يدها و استئثارها بمرافقه، تم تقعيد مبدأ مجانية القضاء، و مؤداه أن القضاة لا يتقاضون مرتباتهم من الخصوم.
و يشكل هذا المبدأ ضمانة أساسية لاستقلال السلطة القضائية، لما قد يفتحه تكليف الأطراف بأداء مستحقات التقاضي من تأثير على قرارات القضاة بحسب يسر المتقاضين و عسرهم.
ومع ذلك فلا تعني المجانية أن المتقاضين لا يتحملون بصفة مطلقة أية أعباء أو مصاريف مالية، إذ إن الرسوم القضائية اللازمة لإجراءات الدعوى تقع على عاتق المتقاضي، و تعتبر في أغلب القضايا من الشروط الشكلية لقبول الدعوى و البت في الطلب.
ومع أن الإلزام بأداء هذه الرسوم قد يبدوا متناقضا مع مبدأ المجانية، إلا أن ذلك قد يكون مستساغا خاصة و أن هذه الرسوم لا تكون في الغالب مرتفعة واعتبارا لكون المطالب بأدائها صاحب مصلحة و يتحملها في الأخير خاسر الدعوى من حيث المبدأ. إضافة إلى ما ينتج عن الإلزام بأدائها من تقليل الدعاوى الكيدية و التقاضي بسوء نية
أما نظام المساعدة القضائية فيعني تخويل المشرع المتقاضين الفقراء والمعوزين، إمكانية الإعفاء من أداء الرسوم و المصاريف القضائية، والاستفادة حتى من خدمات تنصيب محام حال عدم القدرة على توفير الأتعاب الخاصة بالدفاع.
والمساعدة القضائية إما أن تكون بقوة القانون و إما أن تكون بناء على طلب المعنيين بالأمر يوجه للسيد وكيل الملك لدى المحكمة التي يروج أمامها النزاع طبقا لمقتضيات مرسوم 1966 المنظم لمسطرة المساعدة القضائية.
ثانيا : مبدأ علنية الجلسات وشفوية المرافعات
المقصود بمبدأ علنية الجلسات ، ضرورة انعقاد جلسات المحاكم في فضاءات مفتوحة في وجه الجميع، لما في ذلك من ضمانات للمحاكمة العادلة، وبعث للثقة في القضاء, فلا يجوز أن تتسم جلسات المحاكمة بالسرية إلا استثناء متى تعلق الأمر بحفظ النظام العام و رعاية الأخلاق الحميدة، أو بنص القانون.
ويعد هذا المبدأ من المبادئ المقعدة دستوريا و تشريعيا، من خلال العديد من النصوص من بينها الفصل 43 من قانون المسطرة المدنية الذي جاء فيه : “تكون الجلسات علنية إلا إذا قرر القانون خلاف ذلك.
لرئيس الجلسة سلطة حفظ النظام بها ويمكنه أن يأمر بان تكون المناقشة في جلسة سرية إذا استوجب ذلك النظام العام أو الأخلاق الحميدة..”
على أن الأحكام يتعين أن تصدر وجوبا في جلسة علنية، حتى وإن مرت المناقشات في جلسة سرية، و هو ما نص عليه الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية الذي جاء فيه : تصدر الأحكام في جلسة علنية… تنص الأحكام على أن المناقشات قد وقعت في جلسة علنية أو سرية وأن الحكم قد صدر في جلسة علنية”.
أما شفوية المرافعات، فهو مبدأ يقضي، بأحقية الخصوم في تقديم مقالاتهم و مطالباتهم و بسط نزاعاتهم و دفوعاتهم و أوجه دفاعهم مباشرة وبشكل شفوي أمام هيئة الحكم بكل اعتدال. ويخول هذا المبدأ الاتصال الشفهي المباشر للقاضي مع المتقاضي، بما يسهم في تكوين القناعة الكاملة لدى القضاة. فضلا عن تبسيط اقتضاء الحقوق و سرعة استيفائها.
وقد أحاط المشرع هذا المبدأ بقيود تضمن حسن استعماله، خاصة تلك التي تحفظ للقضاء هيبته ووقاره، فقد نص الفصل 50 من المسطرة المدنية على أنه: “.. يجب على الخصوم شرح نزاعاتهم باعتدال. فإذا أخلوا بالاحترام الواجب للعدالة جاز للرئيس أن يحكم عليهم بغرامة لا تتعدى ستين درهما.
يجوز للرئيس دائما في حالة اضطراب أو ضوضاء أن يأمر بطرد الخصم أو وكيله أو أي شخص أخر من الجلسة. وإذا امتنع الأفراد الذين وقع طردهم أو عادوا إلى الجلسة أمكن للرئيس أن يتخذ الإجراءات طبق مقتضيات المسطرة الجنائية.
إذا صدرت أقوال تتضمن سبا أو إهانة خطيرة تجاه القاضي حرر رئيس الجلسة محضرا يرسل في الحال إلى النيابة العامة لتطبيق المسطرة المتعلقة بالتلبس بالجريمة”.
و كان هذا المبدأ هو الأصل في التشريع المغربي بمقتضى الفصل 45 من ظهير 28 سبتمبر 1974، قبل أن يتراجع عنه بموجب تعديل 1993، لتصبح المسطرة الكتابية هي الأصل و الشفوية هي الاستثناء، كما هو الأمر بالنسبة مثلا للنزاعات المتعلقة بقضاء القرب و النفقة و الطلاق و التطليق و الحالة المدنية
ثالثا: مبدأ التقاضي على درجتين
يهدف هذا المبدأ إلى توفير ضمانات أكثر للمتقاضين، عن طريق تمكين المتضررين من الأحكام الابتدائية، من عرض النزاع من جديد على المحكمة الأعلى درجة، بعد الطعن في الحكم الابتدائي القابل للاستئناف. و ذلك بإعادة نشره أمام محكمة الدرجة الثانية التي تبسط رقابتها على الأحكام الصادرة عن المحكمة الأدنى درجة، فضلا عن بسط محاكم القانون لرقابتها على محاكم الموضوع بما يشك ضمانة على احترام القانون و حسن تطبيقه.
ورغم الانتقادات الموجهة لهذا المبدأ، و ما نسب إليه من عيوب، من قبيل إطالة أمد التقاضي وتكثير المصاريف و الصوائر، وتأخير تنفيذ الأحكام، إلا أن إيجابياته تبقى أكثر من سلبياته، لما يشكله من ضمانة لتحقيق العدالة، و لما يتيحه للمتقاضين من فرص الاستدراك ما قد يشوب الحكم الابتدائي من أخطاء و عيوب قد يسقط فيها القاضي الذي يبقى مجرد إنسان قابل للخطأ و التأثر، وكذا استدراك ما يكون قد فاتهم من أوجه الدفاع.
المراجع والمصادر:
عبد الكريم الطالب، التنظيم القضائي المغربي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الخامسة
عبد الرحمان الشرقاوي، التنظيم القضائي المغربي بين العدالة المؤسساتية والعدالة المكملة أو البديلة، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الخامسة.
محمد كرام، الوجيز في التنظيم القضائي المغربي، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك
تحميل المقال: