محتويات المقال
مؤسسة القيم في قانون المسطرة المدنية
في إطار الخطوات الجريئة التي يمليها إصلاح منظومة العدالة ببلادنا، تم اقتراح تعديل الفقرة 2 من الفصل 39 من قانون المسطرة المدنية بشأن إمكانية تعيين قيم من قبل القاضي إذا تعذر استدعاء طرف في الدعوى بسبب عدم العثور عليه بموطنه أو بمحل إقامته، حيث تتجه مسودة المشروع الإصلاحي إلى نية الإلغاء الكلي لمسطرة القيم التي ثبت تواضع تجربتها في حل هذه الإشكالية.
على أن ما يهمنا في هذه المداخلة ليس الإشادة بالقيمة الحقوقية والإجرائية لمؤسسة القيم التي تناولها البحث بما فيه الكفاية، ولكن يهمنا فقط التأكيد على تجذرها في ثقافتنا التشريعية بشكل أسهم في فك ملابسات تخلف أطراف الدعوى عن حضور الجلسات، الش يء الذي يحملنا على طرح التساؤل التالي: ألا يمكن القول بأن تأصيل مؤسسة القيم وتفعيلها أولى من اقتراح إلغائها بالمرة؟
أولا– التعريف بمؤسسة القيم في قانون المسطرة المدنية
لم يصغ المشرع المغربي مفهوما محددا لمؤسسة القيم في قانون المسطرة المدنية، وإنما اعتمد منهجية في توصيف مهامها بكيفية تفض ي مراجعتها إلى تبين المفهوم وإدراك ملامحه وأبعاده؛ إذ بإمكان المستقرئ الململم لعناصر هذا التوصيف أن يبلور مفهوما محددا للمؤسسة، وخيرا فعل المشرع،
فترسيم المفاهيم شأن لا يدخل في دائرة اختصاصه. تتبع هذا التوصيف يفض ي إلى القول بأن مؤسسة القيم هي إدارة جماعية لإجراء تعذر على المحكمة إعلام الشخص المعني به بسبب عدم العثور عليه؛ فهي تدبير وتسيير جماعي يمثله فريق متكامل) القاضي / كاتب الضبط / النيابة العامة / السلطة المحلية (، ولا يقتصر على فرد واحد يدعى القيم كما جرت العادة بشكل سيء، وموضوعها هو إجراء معين يصب في مصلحة طرف تعذر تبليغه به نظرا لجهل المحكمة بعنوانه الصحيح، ولا نتصور أن يكون جهل المحكمة بعنوان أحد الآطراف مبررا لإلغاء مسطرة القيم حتى ولو كان السبب في هذا الجهل هو عدم قدرة الطرف الحاضر على الإدلاء بالعنوان الصحيح لخصمه الغائب
فمن أهم المبادئ التي تنهض عليها صحة الدعوى، استدعاء المحكمة للخصوم ليواجه بعضهم بعضا وليكشفوا عما تقوم عليه ادعاءاتهم من حجج ومستندات، والخطوة الآولى لوضع الدعوى في مسارها السليم تبدأ من استدعاء الخصوم إلى المواجهة البينية تحت نظر القضاء، وما لم يحصل هذا الاستدعاء فلا سبيل للحديث عن قيام حالة التقاضي مبدئيا، ولذلك لا يجوز للمحكمة أن تنظر في ادعاء خصم ما، ما لم تستدع من وجه ضده هذا الادعاء ليسمعه ويبدي أوجه دفاعه فيه، وكذلك لا يجوز لها أن تسمع خصما دون مواجهة خصمه أو على الآقل دون دعوته لهذه المواجهة، ولا أن تقبل ورقة أو مذكرة من طرف دون اطلاع الطرف الآخر عليها، وفي جميع الآحوال لا يترتب على إعمال هذا المبدأ استحالة الخصومة بين حاضر وغائب وجه إليه استدعاء صحيح للمثول أمام القضاء،
لذلك كانت مؤسسة القيم بديلا إجرائيا وحقوقيا ليس فقط لضمان حق الغائب في عدالة موازية، ولكن أيضا لضمان حق الحاضر في التقاض ي ولو كان جاهلا بعنوان خصمه، فكيف نصادر هاذين الحقين بإلغاء مؤسسة القيم لمجرد الجهل بعنوان أحد أطراف الدعوى؟
ثانيا- أصالة مؤسسة القيم في الثقافة التشريعية المغربية
القيم في التشريع العربي عامة والمغربي خاصة مصطلح أصيل في الثقافة والتشريع العربيين، وتأويل ذلك حسب اعتقادنا المتواضع يؤول إلى أن استمرار التلاوة القرآنية المتوالية عبر العصور، وما كان يواكبها من رجوع مستمر إلى الآمهات من مصادر التفسير والحديث ومراجع اللغة والتشريع، كل ذلك خلق مجالا تداوليا واسعا للكثير من المفاهيم الإسلامية التي مارست حضورا قويا في الاصطلاحات الفقهية والتشريعية
ذلك أنه عندما نحاول الجمع بين مدلولات مصطلح القيم سواء على صعيد المنظومة الفقهية أو على صعيد المنظومة القانونية، نلفي المنظومتين في توظيفهما لهذا المصطلح التزمتا بالوفاء للمدلول اللغوي كقاعدة مشتركة تقاطعت فيها مختلف الدلالات الاشتقاقية لكلمة القيام؛ فلفظة القيام هاته بما تحدثه في النفس من إيحاءات متعددة، كالوقوف والنهوض والتعهد والعزم والحفاظ والرعاية واللزوم والثبات والانتصاب وغيرها،
ما فتئت هي اللفظة المركزية التي تمثل جدعا مرجعيا أصليا ترتد إليه كل المعاني المتفرعة عن كلمة ” قام ” بحمولات دلالية تبدو من أول وهلة أنها مختلفة بيد أنها عكس ذلك؛ وقد وفق المشرع المغربي في توظيف هذه الإيحاءات بكيفية أعطت لمصطلح القيم مفهوما موسعا جعل مؤسسة القيم تشمل مجالات تتجاوز مجرد البحث عن الطرف المتغيب في الدعوى، لتغطي مجالات عدة تتصل بالإدارة والتسيير والمالية وتصريف الآعمال ضمن دائرة الإجراءات القضائية، الش يء الذي منح هذه المؤسسة بعدا وظيفيا يبدو أكثر إثراء لها من مجرد التركيز على بعدها الشكلي
ثالثا– مؤسسة القيم ضمانة لفك ملابسات الغياب
اعتمدت مؤسسة القيم في التشريع المغربي كآلية لفك ملابسات الغياب الذي يطرأ على خصوم الدعوى أو على أحدهم بشكل يترتب عنه صعوبة انسياب الإجراءات القضائية بسلاسة، لذلك فهي ضمانة افتراضية تستهدف إيصال الحقوق إلى مستحقيها بالكيفية التي يمليها منطق العدالة، وإعمال هذه الآلية قرينة قوية على حسن سير العدالة وعلى حسن نية الخصوم والقضاء نفسه في عدم اقتضاء الحقوق خارج المنطق الذي تفرضه العدالة بين المتقاضين .
ومن هذا المنطلق ألفينا مؤسسة القيم تستغرق كافة مراحل التقاض ي ابتدائيا واستئنافيا وحتى أمام محكمة النقض، مما يعني أن لحظات تدخلها تتوزع على مختلف مراحل التقاضي، بل وتتخللها في كل الآوقات التي تقطعها الدعوى طالما تغيب الآطراف أو أحدهم، سواء عند بداية سريان مسطرة التحقيق أو عند التبليغ أو عند التنفيذ
وعليه فمؤسسة القيم إنما تشتغل من أجل تيسير البت وإنهاء التقاضي، وليس من أجل إعداد الحجج والمستندات، وبالتالي فالذي لا يمتلك الحجة الكافية لولوج التقاضي، ليس من حقه توظيف مؤسسة القيم لإعداد هذه الحجة، وإلا صارت مطية للإجهاز على الحقوق وخرجت عن سياقها واستثنائيتها، لأنها شرعت من أجل تجاوز معوقات الاتصال والتواصل بين المحكمة ومتقاضيها ليس غير،
والهدف الذي يمليه سياقها في مراحل المشار إليها هو هدف تبليغي جاء على سبيل الاستثناء، والاستثناء – كما هو معروف – لا يتوسع فيه. ويتوقف تشغيل مؤسسة القيم على عنصر الغياب الذي يناقض الحضور، والذي يعتبر مشكلة في تحقيق العلم المنتج للتكليف والمسؤولية، وكل إجراء تنص المسطرة المدنية على ضرورة علم الطرف المراد به، ولم تتمكن المحكمة من العثور على هذا الطرف بسبب الجهل بموطنه تعرض للبطلان، ولا سبيل لتجنب الوقوع في هذا البطلان إلا بإعمال مؤسسة القيم، وليس إعمالها بتنصيب موظف من موظفي المحكمة تسميه قيما فحسب، وإنما إعمالها بتجنيد جهاز من العاملين النافذين لمساعدة هذا الموظف في العثور على المراد في التبليغ، بما في ذلك القاض ي والنيابة العامة والسلطات الإدارية، كل ذلك من أجل فك ملابسات الغياب حماية لحقوق من سجلت غيبته في الدعوى
المراجع :
عبد الجبار بهم : مؤسسة القيم في قانون المسطرة المدنية بين التأصيل والتفعيل والإلغاء
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك
تحميل المقال: