محتويات المقال
تعيين الهيئة التحكيمية
إن استجماع اتفاق التحكيم لأركانه الموضوعية من رضا وأهلية ومحل وسبب وأركانه الشكلية والمتمثلة في إفراغ هذا الاتفاق في الشكل المنصوص عليه قانونيا، لا يكفي لقيام اتفاق التحكيم –شرطا كان أو عقدا – صحيحا، بل لا بد من تعيين الهيئة التحكيمية التي ستتولى الفصل في النزاع التحكيمي أو على الأقل التنصيص على طريقة تعيينها (الفقرة الأولى) مع ما يتبع هذا التعيين من ضرورة قبول المحكم أو المحكمون المعينون للمهمة المسندة إليهم، وبذلك يكتمل تشكيل الهيئة التحكيمية ( الفقرة الثانية)
فكيف تعاملت إذن التشريعات الوطنية للدول مع تشكيل الهيئة التحكيمية؟ أو بعبارة أخرى هل استطاعت القوانين الوطنية للدول تنظيم تشكيل الهيئة التحكيمية بطريقة فعالة توفر الأمن القانوني والقضائي لأطراف التحكيم؟ وما هو موقف اتفاقيات وأنظمة وقواعد التحكيم التجاري الدولي في هذا الصدد؟ وأي دور لمبدأ سلطان الإرادة في عملية التشكيل هاته؟
الفقرة الأولى: تعيين الهيئة التحكيمية أو التنصيص على طريقة تعيينها
استلزم المشرع المغربي لصحة اتفاق التحكيم ضرورة تعيين الهيئة التحكيمية أو التنصيص على طريقة تعيينها، سواء تعلق الأمر بعقد التحكيم أو بشرط التحكيم وفق نص الفصلين 315 و 317 من ق 08-05 ، حيث ينص الفصل 315 على أنه “يجب أن يتضمن عقد التحكيم تحت طائلة البطلان ” … تعيين الهيئة التحكيمية أو التنصيص على طريقة تعيينها…” أما الفصل 317 فينص على أنه “يجب، تحت البطلان أن ينص في شرط التحكيم إما على تعيين المحكم أو المحكمين وإما على طريقة تعيينهم”
انطلاقا من هذه المقتضيات القانونية يتبين أن تشكيل الهيئة التحكيمية أو التنصيص على طريقة تعيينها ركن جوهري في اتفاق التحكيم لا يتصور قيامه بدونه،
ويقصد بتشكيل الهيئة التحكيم تحديد عدد المحكمين الذين ستتكون منهم هذه الهيئة التي ستشرف على حل النزاع ، وفي هذا الصدد نجد أن جل التشريعات الوطنية منحت الحرية التامة لأطراف التحكيم في تعيين الهيئة التي يرتضونها للفصل في نزاعهم، وهكذا ينص القانون 05-08 في الفصل 327 على أنه ” تتشكل الهيئة من محكم واحد أو عدة محكمين تكون للأطراف حرية تحديد إجراءات تعيينهم وعددهم إما في الاتفاق التحكيمي، وإما بالاستناد إلى نظام التحكيم الموضوع للمؤسسة المختارة …”
كما ينص أيضا في الفقرة الأولى من الفصل 41-327 المتعلق بالتحكيم الدولي على أنه “يمكن بصفة مباشرة أو استنادا إلى نظام للتحكيم ان يعين اتفاق التحكيم المحكم أو المحكمين أو ينص على إجراءات تعيينهم وكذا إجراءات تعويضهم”.
وهو ما تتفق عليه أيضا أغلب التشريعات المقارنة، فنجد المشرع المصري حريصا على هذه الحرية ونص على ذلك صراحة في الفقرة الأولى من المادة 15 من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 والتي جاء فيها: “تتشكل هيئة التحكيم باتفاق الطرفين من محكم واحد أو أكثر” وأكد هذا الأمر كذلك في المادة 17 حيث تنص: “لطرفي التحكيم الاتفاق على اختيار المحكم وعلى كيفية ووقت اختيارهم…”
وهو ما أكده أيضا المشرع السعودي حيث تنص المادة 06 من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم على أنه: ” يتعين تعيين المحكم أو المحكمين باتفاق المحتكمين في وثيقة تحكيم..”
هذا ونجد أيضا أن الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم التجاري قد قررت هذا المبدأ، فوفقا للفقرة الرابعة من المادة 05 من اتفاقية نيويورك لسنة 1958 بشأن الاعتراف بالأحكام التحكيمية الأجنبية و وتنفيذها، يمكن رفض الاعتراف ورفض تنفيذ الحكم التحكيمي الأجنبي إذا كان تشكيل هيئة التحكيم مخالفا لما اتفق عليه الأطراف
ووفقا للمادة 04 من الاتفاقية الأوروبية للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1961 فإنه تترك الحرية الكاملة لأطراف اتفاق التحكيم لتعيين المحكمين أو تحديد طريقة تعيينهم
انطلاقا من كل هذا يتضح أن إرادة الأطراف هي الآلية التي تحتل المرتبة الأولى في تشكيل وتعيين الهيئة التحكيمية، وعندما تتعطل هذه الآلية ولم يتفق أطراف التحكيم على تشكيل الهيئة التحكيمية فإنه لا مجال للطعن ببطلان اتفاق التحكيم، ذلك أن ركن تعيين الهيئة يمكن تحققه أيضا عن طريق قضاء الدولة كما تنص على ذلك أغلب التشريعات والاتفاقيات المنظمة للتحكيم.
وفي الحقيقة فإن هذه المكانة البارزة التي يعتليها مبدأ سلطان الإرادة في تعيين الهيئة التحكيمية هي الأكثر تماشيا وانسجاما مع روح وفلسفة التحكيم، حيث يقوم وبشكل أساسي على الثقة، هذه الأخيرة ليست ثقة من أحد الأطراف في الطرف الآخر كما هو معروف في عقود الاعتبار الشخصي، وإنما هي ثقة من المتعاقدين في هيئة من حيث خبرتها وحيادها، ومن ثم قدرتها على تسوية النزاع تسوية قانونية، عادلة وسريعة
وبطبيعة الحال فالثقة في هيئة التحكيم لا يمكن أن تتولد لدى طرفي اتفاق التحكيم إلا بمنحهما الحرية التامة في تعيين المحكمين الذين تتوفر فيهم شروط هذه الثقة ويحسون تجاههم بالأمان القضائي. هذا بالإضافة إلى أن هذه الحرية الممنوحة لأطراف تعد من الضمانات الأساسية والدوافع الرئيسية التي تدفع الأطراف إلى اختيار التحكيم لفض نزاعاتهم الآنية أو المستقبلية، وهي من مميزات التحكيم عن القضاء، على اعتبار غياب إرادة أطراف النزاع في اختيار القضاة الذين سينظرون في النزاع
هذا دون إغفال أن حرية الأطراف في تعيين المحكم لا تكون فقط عند اختيار هيئة التحكيم بداية، وإنما مكفولة كذلك حتى عند انتهاء مهمة محكم لأي سبب من الأسباب ونفس الشيء أيضا في الحالة التي يثبت فيها أن المحكم أو المحكمين المعينين في اتفاق التحكيم لا تتوفر فيهم الشروط القانونية لممارسة مهمة التحكيم أو لوجود سبب آخر يحول دون تشكيل الهيئة، حيث يتم تعيين المحكمين هنا إنما باتفاق الطرفين أو وفقا لمقتضيات الفصل 4 – 327 من القانون رقم 05-08
للطرفين إذن الحرية الكاملة في اختيار وتشكيل الهيئة التحكيمية أو في تحديد الطريقة الواجبة الاتباع في تعيينها، وهذه الحرية أحاطها المشرع المغربي، تجعل مبدأ سلطان إرادة الأطراف في مأمن من كل تجاوز، وتتمثل هذه الحصانة في أحقية أي من طرفي اتفاق التحكيم الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي في الحالة التي يتم فيها تشكيل الهيئة التحكيمية أو تعيين المحكم المنفرد بصفة غير قانونية أو مخالفة لاتفاق الطرفين
تبقى الإشارة إلى أن حرية الطرفين في تشكيل وتعيين الهيئة التحكمية مقيدة بالطبع بما يقتضيه مبدأ المشاركة في الاختيار والتشكيل من قيامها بدور متساو في تحقيقه، بمعنى ضرورة المساواة بين الأطراف في تعيين الهيئة التحكيمية، وبالتالي لا يصح كل شرط يقضي باستقلال أحد الطرفين باختيار الهيئة، أو يقضي عددا يفوق العدد الذي يختاره الطرف الآخر ، فالتشكيل يجب أن يكون باتفاق وتساو طرفي التحكيم.
وإلى جانب المساواة في التشكيل يعتبر مبدأ سلطان الإرادة في اختيار الهيئة التحكيمية مقيدا بضرورة احترام الشروط القانونية التي يجب توافرها في المحكم أو المحكمين الذين سيتم اختيارهم للفصل في النزاع التحكيمي، حيث يجب أن يكون شخصا ذاتيا كامل الأهلية ، وأن يكون مصرحا لدى النيابة العامة بمحكمة الاستئناف أما قاعدة الوترية فلا تشكل أي قيد على حرية الأطراف عند تعيينهم للهيئة
الفقرة الثانية: قبول الهيئة التحكيمية للمهمة المسندة إليها
إن اختيار المحكم أو المحكمون الذين سينظرون في النزاع التحكيمي سواء باتفاق أطراف التحكيم على ذلك، أو بسلوك الطريق القضائي، لا يكفي لقيام إجراء تشكيل الهيئة التحكيمية صحيحا، وبالتالي قيام اتفاق التحكيم صحيحا ومنتجا لكافة آثاره، كما لا يكفي أيضا لإلزام هذا المحكم المختار للقيام بمهمة التحكيم، وإنما لابد من قبول المحكم للمهمة المسندة إليه حتى يكون تشكيل الهيئة التحكيمية مكتملا ومنتجا لآثاره.
فاختيار المحكم من قبل أطراف التحكيم أو عن طريق رئيس المحكمة حسب الأحوال لا يعدو أن يكون طلبا يجوز للمحكم قبوله أو رفضه، حيث لا يمكن إلزامه وإجباره بالفصل في النزاع رغما عن إرادته. ذلك أن المحكم وعلى عكس القاضي، لا يقوم بوظيفة أو مهنة تلقي على عاتقه بالتزام وظيفي أو مهني يحتم عليه الاضطلاع بها، وإنما يقوم بقضاء خاص له الحرية في قبول القيام به أو رفضه
ولهذا نجد معظم التشريعات تنص على ضرورة قبول المحكم المختار لمهمة التحكيم حتى يكتمل تشكيل الهيئة التحكيمية، وفي هذا الصدد ينص المشرع المغربي في الفصل 6- 1/327 من قانون 05-08 على أنه” لا يعتبر تشكيل الهيئة التحكيمية كاملا إلا إذا قبل المحكم أو المحكمون المعينون المهمة المعهود إليها بها”
هكذا إذن يتضح أن مختلف التشريعات تطرقت وبوضوح لوجوب قبول المحكم للمهمة المسندة إليه، حتى يكتمل تشكيل الهيئة التحكيمية وحتى يمكن إلزام المحكم بالفصل في النزاع الذي قبل التحكيم فيه، وهناك من القوانين من تشددت في ضرورة القبول خصوصا عندما يتعلق الأمر بعقد التحكيم، حيث يعد هذا الأخير لاغيا عندما لا يقبل المحكم المعين فيه القيام بالمهمة المسندة إليه ( الفصل 315 من قانون 05-08 )
وبخصوص شكلية القبول فبالرجوع للفصل 6-327/3 من قانون 05-08 يتبين ان قبول المحكم للمهمة المسندة إليه يجب أن يثبت كتابة بالتوقيع على اتفاق التحكيم أو بتحرير عقد ينص على الشروع في القيام بالمهمة، وهو ما يعني أن المشرع المغربي اشترط الكتابة لإثبات قبول المحكم.
وقبول المحكم لمهمته له أهمية بالغة، فبالإضافة إلى كونه الخطوة الأخيرة التي تثبت إنهاء تشكيل الهيئة التحكيمية، فإنه يقطع إثباته دابر أي نزاع محتمل سواء بين الأطراف أو بينهم وبين المحكمين حول مسألة القبول. وتبرز أهمية القبول كذلك خصوصا عندما يتم إثباته بالكتابة، في كونه يعد نقطة بداية إجراءات التحكيم لاسيما في حالة عدم اتفاق الأطراف على تاريخ معين لبدء الإجراءات
كما يساعد أيضا قبول المحكم لمهمته في احتساب أجل إصدار الحكم التحكيمي من طرف الهيئة التحكيمية الفصل 327-20 من القانون المغربي
والأهم من كل هذا أن قبول المحكم لمهمته يشكل نقطة بداية مهمة المحكمين والتي يتعين بموجبها على كل محكم قبل مهمته أن يستمر في القيام بمهمة التحكيم إلى نهايتها، وفي حالة تخليه عن ذلك دون أي سبب مشروع يكون مسؤولا عن دفع تعويضات عن هذا التخلي ، كما يكون أيضا هذا المحكم الذي قبل بمهمته ملزما بالإفصاح كتابة عن أي ظروف من شأنها إثارة شكوك حول حياده واستقلاله.
لكن بالرغم من هذه الأهمية القصوى لقبول المحكم لمهمته، فإن المشرع المغربي، لم يحدد ميعادا نهائيا لهذا القبول، وهو نقص تشريعي يمكن أن تنتج عنه آثار سلبية، ذلك أن عدم إلزام المحكم بوقت معين ومعقول لإعلان قبوله من عدمه، قد يؤدي إلى تراخي المحكم عن قبول مهمته، وهو ما يعني عدم تشكيل الهيئة التحكيمية، وقد يكون هذا التراخي إلى ما لا نهاية مما قد يسبب في عرقلة عملية التحكيم. وبالتالي يجب على المشرع المغربي تدارك هذا الفراغ التشريعي، والنص على ميعاد ووقت محدد ومعقول يلزم المحكم بإعلان قبوله داخله، تحت طائلة تعيين محكم آخر محله.
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك
أحدث التعليقات