محتويات المقال
المبحث الأول : النظام الاتهامی
يعتبر من أنماط النظم الاجرائية ويعتمد في تنظيمه للاجراءات الجنائية على تصور معين للخصومة الجنائية، وهو اعتباره نزاعا شخصيا بين خصمين يحل من خلال اتباع اجراءات معينة امام شخص محايد سلبی هو القاضي الذي يقتصر دوره على تقرير كلمة القانون الأحد الخصمين
النظام الاتهامي في فكرته القديمة قبل تطوره لا يميز بين الاجراءات الجنائية والاجراءات المدنية ، فكلاهما وسيلة قانونية للحصول على المدعي وهو التعويض في الدعوى المدنية والعقوبة في الدعوى الجنائية ، ولم يكن هذا النظام يفرق بين الحقين على نحو دقیق
ويمكن اجمال الخصائص التي يرتكز عليها هذا النظام فيما يلى :
ا- الأصل أن الدعوى الجنائية تعتبر ملكا خالصا أما للمجني عليه أو لوالديه ، أو تعتبر ملكا للجميع ويعبر عن ارادة صاحب هذه الدعوى مواطن خاص مهما كانت علاقته بالجريمة وفي الحالتين : فالاتهام الفردي (الممنوح للمجني عليه أو لوالديه ) أو الاتهام الشعبي ( الممنوح لأي فرد في المجتمع) ، فان الدعوى الجنائية لابد أن تقام بواسطة فرد من الأفراد حتى يختص القاضي بالفصل فيها فلا يملك القاضي أن ينظر الدعوى بدون هذا الطريق
وقد تطور هذا النظام لتسهيل مهمة الاتهام فأسندها الى موظف عام يأتمر بأمر الدولة ، ولكن هذا التطور لم يغير من الطبيعة الخاصة للاتهام فلم يسلب حق الفرد في توجيه الاتهام ولم يتميز عنه بحق أو سلطة تعوق ما يتمتع به في هذا الشأن
2- کان دور القاضي سلبيا محضا أمام حجج الخصوم ، وكانت وظيفته هي ادارة المناقشة وتوجيه سير الإجراءات دون التدخل فيها ، فليس من سلطة القاضي أن يجمع الأدلة أو أن يأمر باتخاذ اجراء معين للكشف على الحقيقة بل يقتصر دوره على الاستماع الى حجج الخصوم وفحص الأدلة التي يقدمونها , نعم ، كان على القاضي أن يحكم وفقا للحقيقة .. ولكنها الحقيقة التي تبدو له من خلال ما يقدمه الخصوم أمامه فهي لیست الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها .. وانما هي الحقيقة النسبية التي توقف على مهارة الخصم في تقديم وشرح حججه
وضمانا لحيدة القاضي عند الفصل في النزاع كانت الإجراءات تم علينا أمام الجمهور ، وقد تطلب ذلك أن تكون المناقشات شفوية على مسمع من الجمهور وضمانا للمساواة بين الخصوم في عرض حججهم كانت الاجراءات تتم في حضور الخصوم جميعا لتمكين كل منهما من ادراك حجج خصمه ومناقشتها
3 -يخضع الاثبات في هذا النظام القواعد شكلية فليس للقاضي أي حرية أو سلطة مطلقة في تقديم الدليل ، بل أن الاقتناع القضائي لا يتم الا من خلال أدلة معينة ، وقد اختلفت الأدلة المقبولة وفقا للعصور التي طبق فيها هذا النظام
وقد تميز هذا النظام بالمساواة في الحقوق بين ممثل الاتهام والمتهم، وفي اشتراط العلانية والشفوية وحضور الخصوم في اجراءات المحاكمة وكل ذلك يكفل احترام الحرية الشخصية للمتهم
على أن هذا النظام لايهیء السبيل الصحيح للكشف عن الحقيقة ، فالقاضي أشبه بالمتفرج على الخصوم ، ودوره سلبی محض ، والحقيقة التي ينشدها محصورة فيما يعرضه الخصوم من أدلة وبراهين وقد تكون كلها غير صالحة أو غير كافية
وهكذا نجد أن هذا النظام لا يكفل الوصول الى الحقيقة بمعناها المطلق ، ويساعد على ذلك نظام الأدلة القانونية الذي طبقه هذا النظام الاجرائی ، فالقاضى لا يكون حرا في اقتناعه الشخصي بل يتأثر بما يقدمه الخصوم في الإطار الذي يرسمه القانون ولا يمكن للحقيقة أن تعتمد في اثباتها على ادلة معينة يحددها القانون سالفا
المبحث الثاني : نظام التحري والتنقيب
في ضوء التغيرات السياسية التي أدت إلى تقوية السلطة المركزية للدولة في مختلف العصور ظهر نظام التحري والتنقيب ويقوم هذا النظام على فكرة مغايرة لفكرة النظام الاتهامی ، فبينما كانت الخصومة الجنائية في النظام الاتهامي هي محض نزاع شخصی بين المتهم وممثل الاتهام سواء بسواء، بين المجني عليه أو غيره ، فان الخصومة الجنائية في هذا النظام لیست نزاعا شخصيا بين المتهم وغيره ، بل هي مجموعة من الاجراءات تهدف إلى كشف الحقيقة واقرار سلطة الدولة في العقاب
فالمتهم ليس طرفا حقيقيا في الاجراءات ولا يملك حقوقا اجرائية خاصة به ، وانما هو محل لما يتخذ نحوه من اجراءات .. فيخضع بذلك السلطة المحقق دون اعطائه فرصة للإسهام في جمع الأدلة
وعلى قاضي التحقيق أن يبحث عن الحقيقة بأية وسيلة ودون تقيد بطلبات المتهم فالحقيقة هي المطلب المنشود وعليه أن يعثر عليها بأي ثمن ولو كان ذلك على حساب حرية المتهم فليس لهذا الأخير حق في الاستعانة بمحام أثناء التحقيق وللمحقق أن يصدر أمرا بحبس المتهم عندما تتضح ( الشبهات قبله )
وقد ترتب على اضفاء كل هذه السلطات للمحقق أن أصبح من الناحية النفسية معدا للوقوف ضد المتهم غير متحمس لكشف الظروف التي تكون في صالحه أو اثبات مدى صحة دفاعه ، وأصبح المحقق مضطرا للتحيز ضد المتهم وضاعف من هذا أنه في بعض التشريعات التي أخذت بهذا النظام سمح القاضي التحقيق أن يصدر أحكاما بنفسه في الجرائم البسيطة كما أنه في الجرائم التي تحال إلى المحكمة كان رأي المحقق حول القانون والوقائع له أهمية حاسمة ، لأن المحكمة كانت تبني حكمها على مجرد ملف التحقيق الذي يعكس الاتجاهات الشخصية للمحقق ، ولهذا قيل بأن المحقق كان يجمع في تحقيقه بين صفة الادعاء والدفاع في آن واحد، كما أنه مسئول ايضا في ذات الوقت عن الحكم الصادر في الدعوی
ويمكن اجمال الخصائص التي يرتكز عليها هذا النظام فيما يلي :
١- لم تعد الدعوى الجنائية ملكا للمجني على أو غيره من الأفراد ، بل أصبحت ملكا للدولة باشرها بالنيابة عنها جهاز خاص وقد سمح هذا النظام في بعض مراحل تطبيقه بأن يختص قاضي الحكم بالتمدي للجرائم التي يعلم بها، الأمر الذي أدى إلى نشوء مبدا ( کل قاض هو نائب عام)
۲- يهدف القاضي الى كشف الحقيقة المطلقة بعيدا عما يقدمه المتهم بل أصبحت ملكا للدولة يباشرها بالنيابة عنها جهاز خاص وقد سمح وحججهم, وقد أدى ذلك إلى تخويل القاضي عند الحكم في الدعوى سلطة ايجابية في جمع الأدلة والبحث عنها . وتمكينا للقاضي من معرفة الحقيقة بعيدا عن تأثير الخصوم ، كانت الإجراءات الجنائية تخضع للسرية ، والكتابة ، وتتم في غير حضور الخصوم ، وهي عكس المباديء التي يخضع لها النظام الاتهامی
وعلى ذلك فان نظام التحري والتنقيب كان بهدف الى كشف الحقيقة مهما كان الثمن ، بخلاف النظام الاتهامی ، الذي كان يستهدف کشف الحقيقية من خلال طلبات الخصوم وحججهم بناء على تصويره الاجراءات الجنائية وكأنها نزاع شخصی بين الخصوم
٣- كان هذا النظام أيضا يقيد الاثبات بنظام الأدلة القانونية مما قید سلطة القاضي في الاقتناع ، وأدى الى اباحة استعمال طرق الاكراه ضد المتهم لحمله على الاعتراف ولكنه وسع من نطاق اتخاذ اجراءات الاثبات ، فخصص اكثر من مرحلة لجمع أدلة الجريمة قبل احالة الدعوى أمام المحكمة ، وشأت بذلك مرحلة الاستدلالات ومرحلة التحقيق الابتدائي
نقد النظام التحري و التنقيب
يتميز هذا النظام بارتكازه على فكرة الحقيقة واتخاذها هدفا للتنظيم الاجرائی ، وقد ترتب على استهداف هذه الغاية أن أصبحت للقاضی سلطة ايجابية في تحقيق الدعوى وعدم الاقتصار على الموازنة بين حجج الخصوم
ومن ناحية أخرى ، فقد أهدر هذا النظام تكييف الاجراءات الجنائية بأنها محض تنظيم للنزاع بين طرفين أحدهما هو المتهم والآخر هو المجني عليه و من يمثله ، وأصبح للاتهام طابعه العام
الا انه للأسف الشديد ، فقد تحققت هذه المزايا على حساب المتهم فقد نظمت الإجراءات لكشف الحقيقة على نحو لا يقيم لحريته وزنا معينا
فلم تفترض البراءة في كافة الإجراءات المتخذه نحوه ، مما يسمح بانتهاك حريته واهدار حقوقه في الدفاع، وبوشرت الاجراءات بغیر علانية و بدون حضوره ، وبدون المناقشة الشفوية لأدلة الدعوى ، وقد ادى ذلك کله أن أصبح المتهم تحت رحمة قاضي التحقيق يحس بالعجز الاجرائی ۰ كما ترتب على المبالغة في الرغبة في كشف الحقيقة بأي ثمن ، أن فقد القضاء حيدته ، وسمح له بالجمع بين سلطات الاتهام والتحقيق والحكم على الرغم من التناقض بين مقتضيات كل منها ، مما أدى إلى أن ينشأ في ظل هذا النظام مبدأ أن كل قاضي هو مدع عام
وقد أدى هذا الوضع أن أصبح المكلف بكشف الحقيقة غير صالح لرؤيتها واستخلاصها وغير قادر على الوصول اليها أما عدم صلاحيته لرؤية الحقيقة واستخلاصها فترجع الى حالته النفسية وقت مباشرة الاجراء بسبب تشبعه برای مسبق ضد المتهم وعدم افتراض البراءة فيه . واما عدم قدرته على الوصول الى الحقيقة ، فترجع إلى أن المحاكمة كانت تتم بناء على الإجراءت المكتوبة والملفات المقيته التي حررت مدوناتها في سرية تامة .
وهكذا لم يكن أساس الحكم في الدعوى هو ما تسمعه المحكمة وتناقشة في حضور المتهم وساهم في هذا القصور نظام الأدلة القانونية الذي يقيد سلطة القاضي في الاقتناع والبحث عن الحقيقة من خلال مصادرها الفعلية
المبحث الثالث : النظام المختلط
يمثل هذا النظام الحل التوفيقي بين النظامين السابقين فهو ياخذ بعض الملامح من كل من النظام الاتهامی و نظام التحري والتنقيب والفكرة التي تكمن وراء هذا التوفيق هو اختيار المبادىء التي تتفق مع الحاجيات السياسية والاجتماعية في كل دولة فضلا عن الاحتياجات العملية التي يتوخاها التطبيق
ولهذا فان النظام المختلط يتميز بالطابع العلمي ولا يتخذ صورة ثابتة مستقرة لها معالم محددة ، فالتوفيق بين الخصائص المختلفة للنظامين السابقين لا يسير على نمط واحد أو وفقا لمعيار محدد بل يتاثر بطبيعة العلاقة بين الفرد والدولة وفقا للقانون الوضعي ، ومع ذلك ، يمكن بوجه عام استخلاص مجموعة من الخصائص التي تتوافر عادة في هذا النظام ، تتمثل فيما يلي :
1 – لا تستأثر النيابة العامة وحدها بتهمة الاتهام ، وانما يجوز ايضا للمجني عليه المضرور تحريك الدعوى الجنائية قبل المتهم ، ولا يسمح هذا النظام لأي فرد لا علاقة له بالجريمة بتحريك الدعوى الجنائية ، كما هو الشان في النظام الاتهامی ، بل يشترط أن يكون مجنيا عليه في الجريمة ولحقه الضرر بسببها
2 – يشترك هذا النظام مع نظام التحري والتنقيب في اعطاء القاضی دورا ايجابيا في البحث عن الحقيقة ، وفي تنظيم مرحلة أو اکثر سابقة على المحاكمة لجمع أدلة وكشف الحقيقة ، ولكن هذا التنظيم لا يفحی بالحرية الشخصية، ويكفل احترامها في حدود معينة
3 – يسعى هذا النظام الموازنة بين حقوق الاتهام وحقوق الدفاع، الا أنه لا يصل الى المساواة التامة بين حقوق الاثنين ، وقد تلاقي هذا النظام مع نظام التحري والتقب فيما يتعلق بسرية التحقيق الإبتدائی بناء على أن مصلحة هذا التحقيق تطلب مباشرته دون علانية ، على أنه في مرحلة المحاكمة بأخذ عن النظام الاتهامی مبادی، شفوية المرافعة ، والعلانية ومباشرة الاجراءات في حضور الخصوم
4 – يأخذ هذا النظام بما حرية القاضي في الاقتناع ، فلا يقيده بادلة معينة يحددها القانون فالقاضى حر في أن أخذ بما شاء من الأدلة وان يستخلصها من أي مصدر يراه التقيد بأدلة معينة او باشكال معينة للادلة
– تقدير النظام المختلط
يتميز هذا النظام بأنه يحاول معالجة بعضر العيوب في كل من النظامين السابقين ، والتوفيق بين سلطة الدولة في العقاب والحرية الشخصية
الا أن عيوب هذا النظام تتجلى في افتقاده إلى اساس فكرة يعكس حدود هذا التوفيق ويبعده عن شبهة الاصطناع ، ولهذا يغلب الطابع العملي على هذا النظام فيجعله محلا للتغير والتعديل وفقا للتجارب والنظم السياسية في الدول المختلفة
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك
أحدث التعليقات