محتويات المقال
الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون
عبد الرحمان ابن خلدون ولد سنة 1332م و توفي سنة 1406, ولد في تونس من عائلة يمنية تولى عدة مناصب عند بلوغه سن 45 سنة أصدر كتاب “المقدمة”
اهتمامه الأساسي: التاريخ وفلسفة التاريخ, بل تندرج تأملاته في الظواهر الاقتصادية ضمن تمحيصه للمجتمع البشري وككل في حركته التاريخية
1 – الثورة عند ابن خلدون
أدرك ابن خلدون أن النشاط الإنتاجي يمارس داخل إطار جغرافي, ومن ثم ركز على عوامل المناخ و الطبيعة و تطرق إلى عنصر التغذية وأثره في نمو جسم الإنسان, وإدراكه لأهمية الإطار الجغرافي يبرز مدى التأثير الذي تمارسه العوامل الطبيعية على النشاط البشري وكذلك تكييف هذا النشاط بفعل عوامل الطقس و المناخ و التربة.
أما بخصوص مصدر الثروة الاقتصادية أو ما يسميه ابن خلدون , الرزق و الكسب, يرى المفكر أن الثروة لا تحصل مباشرة أو بصفة غير مباشرة إلا بواسطة العمل البشري, و من هنا يتضح لنا المكانة التي يكتسيها مفهوم العمل في تحليل الخلدوني, ويرى ابن خلدون أن السبب في ازدهار المدن يرجع غلى العمل الجماعي, أي إلى الانتاج الجماعي, ذلك لأن تقسيم العمل يرفع من الإنتاجية ويوفر فائضا اقتصاديا يصرف لسد الحاجيات الكمالية في حين أن البادية لا تنتج الفائض الاقتصادي نظرا لقلة التعاون بين الأفراد في العمل و لتشتت الخلايا المنتجة,
و بما أن مصدر الثروة في نظر ابن خلدون هي الأعمال البشرية , فكلما ازدادت الأعمال كلما تكاثر الكسب و كلما انتقصت كلما قل الرزق و الكسب, و يفرق ابن خلدون بين الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش أي بسد الحاجات الضرورية , والأعمال الزائدة التي تخص بالحاجيات الكمالية و الترف.
2 – الكسب عند ابن خلدون
إن الكسب في نظر بن خلدون هو إمارة و تجارة و فلاحة و صناعة, ويرتكز هذا التصنيف على مقياس الصفة الطبيعية أو اللاطبيعية لكل وجه على حدة, فالتجارة و الصناعة و الفلاحة كلها وجوه طبيعية للكسب, فمنها ما هي نظرية و متقدمة على بعضها لا تحتاج إلى نظر ولا علم كالفلاحة ومنها ما هي متأخرة عنها وهي مركبة و علمية تصرف فيها الأفكار و الأنظار التي ظهرت في فترة لاحقة من التطور الإنساني.
أما الإمارة في رأي ابن خلدون, والتي تعني كسب الجباية السلطانية و الخدمة أو العمل المأجور, ليست بمذهب طبيعي للمعاش لأنها تعتمد على وجود السلطة و الجاه.
فمن خلال هذا الترتيب الذي يصنف وجوه الكسب الى ما هو طبيعي و غير طبيعي, أوضح ابن خلدون مختلف الأنشطة الاقتصادية القائمة آنذاك في بلاد الإسلام مع ذكر مراتبها و منافعها و مشروعيتها.
3 – نظرية العمل عند ابن خلدون
تعتبر نظريات العمل والقيمة، والحرية الاقتصادية من أهم النظريات التي اهتم بها علماء الاقتصاد باعتبارها أساس النشاط الاقتصادي القائم على العمل، هذا العمل الذي ينتج سلعة أو خدمة معينة يتم تداولها وتبادلها، الأمر الذي يفرض وجود مجال يتم ضمنه هذا التداول بين المنتج والمستهلك. وباعتبار السوق مكان التقاء الرغبات، والبيع والشراء فيه وسيلة لإشباع الحاجات المختلفة فإنه يتطلب توفر مجموعة من الشروط والضوابط ليسود السعر الطبيعي والثمن الحقيقي دون إضرار بأي من طرفي المعاملة الاقتصادية والتجارية. وعليه فسيادة الحرية الاقتصادية والمنافسة للسوق دون تدخل يجعل السعر يميل أكثر إلى العدل من خلال قانون العرض والطلب.
ومن المعروف تفاوت البشر في قدراتهم الجسدية والذهنية، ويبدو هذا التفاوت في الميول والنزعات التي تتعلق باختيار نوع العمل،
فظاهرة التخصص وتقسيم العمل قديمة، وقد مرت بمراحل متعددة؛ بدأت في العصور القديمة بالتخصص المهني، ثم تدرج تقسيم العمل في القرون الوسطى إلى تخصص كل عامل في إنتاج سلعة معينة، ثم عرف التقسيم الفني للعمل حديثا في المجتمعات البشرية المختلفة.
وقد عرف المجتمع الإسلامي ظاهرة تقسيم العمل والتخصص فيه وذكر ابن خلدون ” أنواع الأعمال التي كانت سائدة في المجتمع الإسلامي، وبين ما هو ضروري منها للعمران، وما هو ثانوي. وذكر خصائص هذه الأعمال والحرف”
فالتخصص وتقسيم العمل يسمح بتجزئة الأعمال الإنتاجية إلى سلسلة من العمليات المترابطة المتصلة حيث ينجز كل عامل عملا منفردا قد يكون واحدا من مئات الأعمال اللازمة لإنتاج سلعة ما، وغالبا ما يؤدي التخصص وتقسيم العمل إلى زيادات كبيرة في نصيب العامل من الإنتاج الكلي. فإذا كانت قوة العمل هي مجموع القدرات والكفاءات الجسدية والعقلية التي يتمتع بها العامل ويستعملها أثناء عمله، فإن تفاوت واختلاف تلك الكفاءات من عامل إلى آخر يجعل كل عامل يختلف عن الآخر في قيامه بالعمل أثناء عملية الإنتاج.
وبحث ابن خلدون موضوع العمل ودرسه دراسة علمية اقتصادية بشكل تطبيقي، حيث قرر ابتداء أن الحاجات الفيزيولوجية لجسم الإنسان أوجدت لديه الحاجة إلى الغذاء ليحتفظ بحياته، وتوفير هذا الغذاء دفعه إلى العمل، ولما كان الإنسان بمفرده لا يتصور منه توفير كل حاجياته احتاج إلى عمل غيره وكان غيره أيضا في حاجة إلى عمله ومنتجاته فاضطر إلى التعاون مع غيره. فكان هذا التعاون نتيجة تقسيم العمل بينهم لكي يتبادل كل منهم ما زاد من منتجاته عن حاجياته مع منتجات غيره، وكان أول مظاهر هذا التبادل المقايضة ثم تطور الأمر إلى عمليات البيع والشراء.
حيث يقول ابن خلدون بشأن العمل وتقسيمه: ” إن الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع؛ أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران، وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا تصح حياته إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منها، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا فلا يحصل عليه إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حبا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أكثر من هذه من الزراعة والحصاد والدراس.
ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير ويستحيل أن توفى بذلك كله أو بعضه قدرة الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت لهم وله، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف
4 – نظرية القيمة عند ابن خلدون
يمثل ابن خلدون الاتجاه الموضوعي للمفكرين المسلمين في تفسير ظاهرة القيمة فقد ضمن مقدمته أفكارا عن القيمة حيث اعتبر العمل أساس تحديد قيمة السلعة، فالقول بنظرية:
العمل أساس القيمة لم يكن من ابتكارات المفاهيم الاقتصادية المعاصرة، بمعنى أن هذه النظرية لم تكن لتبدأ زمنيا مع وليم بيتي أو سميث أو ريكاردو أو مالتس وإنما سبقهم إلى ذلك ابن خلدون في تنظيره لهذا المبدأ الاقتصادي المهم ولكل المسائل المتفرعة عنه.
لقد ذكر ابن خلدون في أكثر من موضع في مقدمته بأن العمل هو مصدر القيمة التبادلية للسلعة، حيث قال: ” فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول”. وبذلك ربط بين قيمة السلعة وقيمة العمل المبذول في صنعها ربطا طرديا، بحيث ترتفع قيمة السلعة كلما ارتفعت قيمة المجهود المبذول في إنتاجها وتنخفض قيمتها بقلته وانخفاضه.
ويبرز ذلك في قوله: ” فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هناك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكبر، وإن كان غير الصنائع فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس فإن اعتبار الأعمال فيها ملاحظ في أسعار الحبوب، لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية”
والكسب في جميع الأموال لا يتصور إلا عن طريق العمل الإنساني لأنه قيمة ذلك العمل. ولا يمكن للعمل أن ينتج كسبا دون قيمة، ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يبذل جهده دون قيمة لأنه محتاج إلى تلك القيمة لكي ينفقها على نفسه”
لذا يتعين أن تكون القيمة التي يتقوم بها العمل مناسبة لحجم العمل والجهد المبذول من حيث المقدار، على ألا يكون أقل من الحد الأدنى الذي يكفي لضمان حد الحاجات الضرورية في مستوى الكفاية. لأن العمل هو وسيلة الأفراد للمعاش ولا يتصور معاشهم إلا بكمال الكفاية.
فإن أصبح المكسب المحقق عن طريق العمل غير كاف لتوفير الرزق الضروري فمعنى ذلك أن قيمة العمل منقوصة. فالرزق يحصل بالعمل، والرزق ما يكفي حاجات الإنسان ويعكس قيمة العمل المبذول.
أنواع القيمة عند ابن خلدون
تشكل نظرية القيمة المحور الأساسي في الاقتصاد السياسي بنوعيها، إذ يسهل ذلك فهم معنى القيمة، وقد فرق ابن خلدون بين نوعين من القيمة وهما: القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية.
أولا: القيمة الاستعمالية
يقول ابن خلدون: ” ثم إن الحامل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد حصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقا”
فمصطلح الرزق عند ابن خلدون يقصد به: القيمة الاستعمالية في اصطلاح المذاهب الاقتصادية الحديثة. فلكل سلعة سواء كانت سلعة اقتصادية أو حرة قيمة استعمالية، هي قدرة هذه السلعة أو الخدمة على تحقيق الإشباع المباشر للحاجات الإنسانية لحظة استعمالها.
وتبرز القيمة الاسعمالية للسلعة أكثر بالنسبة للفرد الواحد، فقيمة استعمال سلعة ما تتمثل في المنفعة المتحققة منها. وطالما أن هذه القيمة تبرز بمجرد استعمال السلعة والحصول عليها فهي لا تتطلب وجود سوق أو مبادلة بين الأفراد
ثانيا: القيمة التبادلية
يقول ابن خلدون: ” ثم إن الحامل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي رزقا ، وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقا، والمتملك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته يسمى كسبا”
فقيمة المبادلة تبرز في الجماعات وتعامل وتبادل الأفراد فيما بينهم وهذا ما يعرف بالقيمة التبادلية أو القيمة الاجتماعية للسلعة أو الخدمة. ولتحقيق هذه القيمة تتطلب المعاملة سلعتين، إذ تختلف وتتميز السلعة عن الأخرى بمواصفات مختلفة.
فالنوع الثاني من الأشياء المقتناة التي ذكرها ابن خلدون لا يكون الهدف منها مجرد الاقتناء للاستعمال الشخصي، بل هدف اقتنائها هو إجراء مبادلة بغيرها، وعليه تكسب قيمة تبادلية، وهي قيمة تقتصر وتختص فقط بالسلع الاقتصادية، وتتطلب مبادلتها توفر السوق لغرض عرضها. فالقيمة التبادلية هي محور العمليات التبادلية في المقايضة وفي تحديد الأسعار في المعاملات التجارية.
5 – نظرية الإنتاج عند ابن خلدون
يوجه الإسلام العباد إلى استخدام وتوظيف قدراتهم في توظيف موارد الطبيعة المختلفة للاستفادة منها في إشباع حاجاتهم المشروعة من خلال استهلاك السلع والخدمات المختلفة التي ينتجونها، وذلك من خلال اعتماد عناصر الإنتاج المختلفة في ممارسة مظاهر النشاط الاقتصادي التي عرفها الإنسان.
” إن العملية الإنتاجية كما وصفها ابن خلدون تتألف من حلقات أو عمليات متشابكة ومتراكبة، ولذلك فإن إتمامها أو القيام بها يخرج عن طاقة الواحد من البشر. ومن ثم يلزم التعاون بين مجموعة من الناس وقيام كل واحد منهم بدور معين”
ومن منطلق كون الإنسان مدني بالطبع وأن الاجتماع ضروري للإنسان باعتبار” أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له لمادة حياته منه ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري”
و يميز ابن خلدون بين عناصر الإنتاج اللازمة لأداء العملية الإنتاجية إذ يحصرها في العمل ورأس المال والموارد الطبيعية، وهي فيما يلي:
أ: العمل
ذكر العمل في مواضع كثيرة من المقدمة واعتبره أهم عنصر من عناصر الإنتاج بين تصريح وتلميح، إذ دونه لا يمكن إتمام أي شيء نافع للإنسان. ويعني العمل تلك القدرة الموجودة لدى الإنسان، ولا يقتصر العمل على القدرة الجسمانية بل يشمل أيضا القدرة الفكرية أو الذهنية، لأن القدرة الذهنية أو الفكرية مكملة للقدرة الجسمانية ومرتبطة بها إذ لا تكفي القدرة الجسمانية على إنتاج أنواع كثيرة من السلع والخدمات أو تطويرها، إذ تساعد في اختراع الأدوات المناسبة للعملية الإنتاجية وهي بدورها تنتج ما يعرف برأس المال. يقول في ذلك: ” إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله”
ويبرز أهمية القدرة الذهنية في العمل البشري في قوله مثلا: ” فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته إلا أن نعمة العقل لدى الإنسان جعلته أفضل تأقلما واستخداما للطبيعة منهم، الأمر الذي يبين أهمية القدرة العقلية أو العمل الفكري في العملية الإنتاجية ، فالله سبحانه جعل للإنسان عوضا من ذلك كله يقصد عوضا عن القدرات الجسمانية الهائلة لدى الحيوانات- الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع تحصل له الآلات التي تتوب له من الجوارح المعدة في سائر الحيوانات”
فمن خلال ما سبق يتبين أن ابن خلدون اعتبر العمل بنوعيه أساس نشأة رأس المال.
ب: رأس المال
تكلم ابن خلدون عن رأس المال ودوره في العملية الإنتاجية في عدة مواضع من المقدمة، حيث يقرر أن مراحل الإنتاج لا يمكن إتمامها إلا باستخدام معدات وآلات من أنواع مختلفة،: ” فكل واحد من هذه الأعمال يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة”
ج: موارد الطبيعة
هبة للإنسان يستفيد منها تحقيقا لمبدأ الاستخلاف في الأرض وهي من خلق الله وقد وضعت كل هذه الموارد تحت تصرفه لينتفع بها في معاشه. ويقرر أيضا أن موارد الطبيعة ليست مختصة بأمة دون غيرها بل يشترك فيها البشر جميعا باعتبار يد الإنسان مبسوطة على العالم والناس مشتركون في ذلك.
وأهم ما لوحظ على ابن خلدون اعتماده على العقيدة الدينية في تحليله واستشهاده في بعض المسائل الاقتصادية، كما هو الأمر في مسألة موارد الطبيعة باعتبارها عنصرا من عناصر الإنتاج. وفي ذلك يشترك مع بعض مشاهير علم الاقتصاد في أوربا خلال نفس الفترة الزمنية أو ما يعرف بالعصور الوسطى حيث ظهر أثر الدين جليا في تحليلهم لبعض المسائل الاقتصادية مثل: الربا وعدم مشروعيته والسعر العادل، وغيره.
كما امتد أثر الدين جليا في القرون الموالية مرتبطا ومؤثرا في التحليل الاقتصادي. إذ ظهر أثر العقيدة الدينية واضحا في تحليل الفيزوقراط لبعض المسائل مثل مناداتهم بفضل الزراعة على سائر الأنشطة الاقتصادية ومطالبة الدولة بعدم التدخل في النشاط الاقتصادي لأن القوانين التي تحكمه قوانين طبيعية من تدبير الخالق الذي نظم كل شيء في الكون مسبقا ووضع له قوانينه”
كما ظهر أثر العقيدة الدينية أيضا في خلفية التحليل الاقتصادي للحرية الاقتصادية واليد الخفية التي أبرز آدم سميث دورها في تحقيق التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة”
6 – الصناعة عند ابن خلدون
يقول ابن خلدون: ” وأما الصنائع فهي ثانيها ومتأخرة عنها: لأنها مركبة وعملية تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالبا إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو وثان عنه،
وعليه فالصناعة عند ابن خلدون نشاط اقتصادي مهم ودقيق ويحتاج إلى جهد عقلي وفكري وكفاءة معينة عكس الفلاحة. فقد أولاها أهمية في بحثه وتحليله لأنواع النشاط الاقتصادي لأنها مرتبطة بنظرية العمران البشري، وعليه ربط بين انتشار البداوة في عصره وقلة الصنائع لسببين: الأول: أن البدو أعرق في البداوة وأبعد ما يكونون عن العمران الحضري، وعليه فلا حاجة لهم إلى الصنائع الأمر الذي يفسر قلة الصنائع لديهم. والثاني: أن الصناعة عكس الزراعة- في نظره- فهي تحتاج إلى قدرة وملكة وتفوق ويتحقق ذلك التفوق والكفاءة عن طريق التكرار والتعود حتى يصل منتحلها إلى مرتبة الإجادة وهذا لا يتصور تحققه إلا في ظل العمران الحضري.
وباعتبار ” الصنائع لابد لها من المعلم فالصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري وبكونه عمليا هو جسماني محسوس والأحوال الجسمانية المحسوسة نقلها بالمباشرة اًوعب لها وأكمل؛ لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية أتم فائدة والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته وعلى نسبة الأصل تكون الملكة، ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة عن الخبر، وعلى قدر جودة التعليم وملكة العلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته”
فإن الصنائع مرتبطة بعلاقة طردية بمستوى العمران والتمدن وزيادة ونقصان الترف.
فمتى كان المجتمع أقل تطورا ولم يصل إلى مرحلة العمران الحضري كان التركيز فقط على توفير الحاجات الضرورية المتعلقة بالمعاش من الغذاء والأقوات، وهنا يسجل ضعف الصنائع وربما انعدامها وتعطى الأولوية لنشاط الفلاحة وهذا صحيح.
في حين يصبح الاهتمام في ظل العمران الحضري إلى جانب توفير الضروريات السعي لتوفير حاجات كمالية بما يتناسب مع تطور العمران البشري بما يحقق الترف والإشباع والراحة. فيبرز الاهتمام بالجانب الفكري فتزدهر الصنائع وتزداد حاجة الناس إليها فتكثرأنواعها ويرتفع مستوى إنتاجها كما ونوعا؛ أي من حيث العدد والجودة، فتصبح صناعة دقيقة تحتاج إلى ملكة وصقل موهبة عن طريق الدربة والمثابرة.
ويقول ابن خلدون: ” إن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته والسبب في ذلك أن الناس ما لم يستوفى العمران الحضري وتتمدن المدينة إنما همهم في الضروري من المعاش. وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها، فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش. ثم إن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية، فهو مقدم لضرورته على العلوم والصنائع وهي متأخرة عن الضروري.
وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ وجودة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة”
ولكن تلك مقارنة تصح بين العمران البدوي الذي لا يحتاج من الصنائع إلا النوع البسيط منها لاستعماله في توفير الضروريات، ولكن كلما زخر بحر العمران وتطور وانتقل المعاش من مرتبة توفير الحاجات الضرورية إلى مرتبة الكماليات لتحقيق الترف والثروة ازداد التأنق في الصنائع وجودتها وظهرت صناعات جديدة قد تتدرج إلى أن تصبح هي الأخرى من وجوه المعاش مع تطور العمران.
وعلى هذا الأساس ميز ابن خلدون بين العمران الحضري والبدوي وقسم الصنائع إلى بسيطة ومركبة وفقا للضروريات والكماليات، حيث يقول: ” ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولا، ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقا في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصا”
وعليه فسعي الإنسان لإنتاج السلع الكمالية هو الذي يؤدي إلى تطور الصناعة وزيادة تعقيدها. ويشرح ابن خلدون أن هذا التطور والتعقيد يتم بخروج الفكرة باعتبارها قوة إلى مجال التطبيق والفعل عن طريق التدرج. ” وتحول الفكر إلى فعل يحتوي على بذرة التفرقة بين الاختراع كظاهرة فنية أو علمية والتجديد كظاهرة عملية وهي تطبيق الاختراع”
ويبرز ذلك في قوله: ” ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التدريج حتى تكمل ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال. إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لاسيما في الأمور الصناعية، فلا بد له إذن من زمان. ولهذا نجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل”
7 – التجارة الخارجية عند ابن خلدون
” التجارة الخارجية هي التي تتم بين الدول من خلال عمليات التصدير والاستيراد حيث يتم انتقال السلع والخدمات والموارد المالية من دولة لأخرى وفق إجراءات إدارية ومالية”
فالتجارة الخارجية وجه من أوجه النشاط الاقتصادي التي تعبر الحدود السياسية والجغرافية للدولة. سواء تمثل ذلك في انتقال للسلع والخدمات عن طريق الاستيراد والتصدير أو حركة رؤوس الأموال.
واعتبر ابن خلدون التجارة الخارجية أكثر ربحا من التجارة الداخلية في قوله: ” ولهذا نجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالا لبعد طريقهم ومشقته، واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش . فتجد سلع بلاد السودان قليلة لدينا فتختص بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم، فتعظم بضائع التجار من تناقلها ويسرع إليهم الغنى والثروة من أجل ذلك. وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد المشقة أيضا، وأما المترددون في الأفق الواحد، ما بين أمصاره وبلدانه، ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة، لكثرة السلع وكثرة ناقليها”
ومن الواضح أن ابن خلدون أعطى أهمية للتجارة الخارجية مقارنة بالتجارة الداخلية بحكم الفترة الزمنية التي عالج فيها الموضوع حيث كان العائد والأرباح المحققة من التجارة الخارجية باهضا باعتبار بعد المسافة والمخاطر المحدقة بعملية الاستيراد والتصدير. ولعل تلك الظروف والعوامل ظلت قائمة طويلا، إلا أن التطور الهائل الذي حدث في مجال النقل والمواصلات التي عرفها العالم خلال القرن التاسع عشر وما بعده غير تلك المفاهيم وقلل من شأن الأرباح الهائلة التي تحدث عنها، مع أن الأمر لا يخلو من عوائد وأرباح مهمة يحققها الاستيراد والتصدير.
ورغم تحليله للتجارة الخارجية إلا أنه ركز فقط على الأرباح، في حين لم يتحدث عن أهميتها في تنمية اقتصاديات الدول وزيادة الدخل القومي ورفع المستوى المعيشي للأفراد ونوعية الخدمات الاجتماعية، ثم إنه أغفل الحديث عن أهمية التجارة الخارجية في تصدير الفائض من الإنتاج إلى سوق خارجي وكذا تغطية العجز المسجل لدى العديد من الدول وعدم تحقيق الاكتفاء الذاتي لإشباع وتلبية رغبات المستهلكين.
إضافة إلى ما أصبحت تحققه التجارة الخارجية في العصر الحديث من تبادل وانتقال التكنولوجيات الحديثة التي تساهم في تطوير الإنتاج وتحقق نسبا مهمة من النمو الاقتصادي للدول، إلى جانب انتقال المعدات الرأسمالية وكل مستلزمات الإنتاج
8 – الحاجات عند ابن خلدون
يقسم ابن خلدون الحاجات إلى ضرورية وحاجية وكمالية وفقا لهذا الترتيب، إذ يقول: لا شك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه، وكان الضروري أوالكمالي فرع ناشئ عنه، لأن أول مطالب الإنسان الضروري ولا ينتهي إلى الترف والكمال إلا إذا كان الضروري حاصلا”
فالإنسان برأيه مفتقر إلى أشياء أساسية بطبعه لا غنى له عنها كي يحافظ على حياته ويحافظ على نوعه، ولا يتم حفظ هذا الأصل إلا بتوفر المرحلة الأولى من الحاجات وهي الضروريات. وتتمثل هذه الضروريات عند ابن خلدون في: ” الغذاء الضروري والملبس اللازم والسلاح الذي يدافع به عن نفسه ” ويقصد بالأساسية والضرورية أنها الأهم ولا يسبقها شيء من حيث الترتيب للبقاء والاستمرار، وهذا أمر طبيعي.
وبحكم التطور الذي تشهده المجتمعات فإن هذه الحاجات الضرورية هي مجرد بداية فقط، حيث كلما تطور العمران وازدادت الحضارة نشأت حاجات أخرى نتيجة ارتفاع دخول الأفراد، فتظهر حاجات جديدة حاجية وكمالية يمليها التطور الحضري للمجتمع مثل: جودة الملابس وجمالها شكلا ونوعا، والمنازل المنمقة من الداخل والخارج وأدوات منزلية أحدث ومعادن أغلى، وغيره.
ويبرز ابن خلدون ذلك بقوله: ” فاختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي. ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر. ثم تزيد أحوال الرفه والدعة فتجيء أحوال الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج، وغير ذلك” أي أن الحاجات متسلسلة متوالدة حيث أن توفير الضروري يولد الحاجي وإشباع الحاجي يولد الكمالي، ودرجة وفور العمران وعدد السكان معيار الحاجات من حيث النوع والكمية .
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفه وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف وتعتاد تلك الحاجات لما تدعو إليها فتنقلب ضرورات لأن الناس ما لم يستوفى العمران وتتمدن المدينة إنما همهم في الضروري من المعاش وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها. فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش، فتكون تلك المكاسب معاشا إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة ورياشا متمولا إذا زادت على ذلك
9 – النقود عند بن خلدون
يعرف ابن خلدون النقود بقوله ” أن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواها في بعض الأحيان فإنما هو يقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل، ويرغب الناس في اقتنائهما نهائيا بدلا من أي شيء، فهما أصل المكاسب والقيمة والذخيرة”
ويتضح من خلال تعريف ابن خلدون أنه حدد وظائف النقود ضمنا حيث تعتبر قيمة لكل متمول: بمعنى تقوم بوظيفة قياس القيم، وفي حالة اقتناء سواهما فالهدف تحصيلهما بمعنى اعتبارهما مستودعا للقيم. وطالما يرغب الناس في اقتنائهما نهائيا بدلا من أي شيء آخر فهي تتمتع بالقبول العام.
ثم إن النقود وهي الذهب والفضة – عند ابن خلدون – هما أصل المكاسب كلها فلا يتم تحقيق أي أهداف أو مكاسب من النشاط الاقتصادي إلا بتوظيفهما. وتوظيف ابن خلدون لمصطلح القنية والذخيرة تأكيد لمدى صلاحيتها لحفظ القيم والثروة واستعمال هذه الثرة في أوجه النشاط الاقتصادي لتحقيق المكاسب والأرباح.
تحميل المقال
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
أحدث التعليقات