محتويات المقال
المصادر الرسمية للقانون الدولي : المبادئ العامة للقانون
انطلاقا من الفقرة الأولى من المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن المبادئ العامة للقانون تأتي في المرتبة الثالثة ضمن المصادر الرسمية للقانون الدولي، لذلك لا تسمح قراءة النص باستنتاج أنها مصدر مساعد كما ذهب إلى ذلك بعض الفقه
و قد كانت هذه المبادي منذ وقت طويل محلا لنقاشات الفقه حول وجودها، و استقلالها تحديدا عن المصدر الثاني من مصادر القانون الدولي العام و هو العرف، فبداية من ستينات القرن الماضي اعترض الفقه الاشتراكي مدعوما بفقه البلدان النامية على وجودها أصلا مركزا على نقد العبارة العنصرية (الأمم المتمدينة) التي تعكس مفهوما أوربيا ذاتيا متعاليا للحضارة موروثا من عهد الاستعمار
لكن البقاء في إطار النص القانوني الذي أوجد هذه المبادئ و الاسترشاد بتطبيقات القضاء الدولي السابقة في جانب منها على النص ذاته، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك حقيقة هذه المبادئ و استقلاليتها تجاوزا للجدل الفقه حولها، و الذي لم تعد له اليوم في حقيقة الأمر الا قيمة تاريخية أو أكاديمية محضة
أولا – تعريف المبادئ العامة للقانون
المبدأ عموما هو كل قاعدة تبلغ من العمومية و الأهمية ما يجعلها أساسا للعديد من القواعد التفصيلية المتفرعة عنها
بناء عليه فالمبادئ العامة للقانون المقصودة هنا هي تلك القواعد العامة و الأساسية التي تهيمن على الأنظمة القانونية، و التي تتفرع عنها قواعد أخرى تطبيقية تخرج إلى حيز التنفيذ في صورة العرف و التشريع
في سياق ذي صلة هناك من يعرف المبادئ العامة القانون على أنها مجموعة المبادئ التي ترتكز عليها و تقرها معظم الأنظمة القانونية لمختلف الأمم، كالمبدأ الذي يقضي بالتزام كل من تسبب في ضرر للغير القيام بإصلاحه
و التعريف الأكثر قبولا و تداولا هو أن المبادئ العامة للقانون هي مجموعة المبادئ المشتركة للأنظمة الكبرى للقانون المعاصر، و التي يجري تطبيقها في النظام الأولي
ثانيا – الجدل الفقهي بشأن المبادئ العامة للقانون
ينكر جانب من الفقه وجود المبادئ العامة القانون أصلا، فيما يشكك جانب آخر منه في استقلالية هذه المبادئ كمصر مباشر للقانون الدولي العام:
1- الاتجاه المنكر لوجود المبادئ العامة للقانون
لا تعترف المدرسة الوضعية (الإرادية) للمبادئ العامة للقانون بالصفة القانونية كمصدر للقانون الدولي العام لأن المصدر الوحيد لهذا القانون في نظرهم هو إرادة الأول لا غير، هذه الإرادة التي يمكن أن تتخذ صورة صريحة (المعاهدات الدولية) أو صورة ضمنية (العرف الدولي)، كما أن الاعتراف لهذه المبادئ بوصف المصدر على حد زعم هذه المدرسة يعني قيام الصلة بين القانونين الدولي و الوطني، و هو ما يتعارض مبدأ الفصل بين القانونين الذي يعتبر مرتكز المدرسة الوضعية.
في نفس الاتجاه يستبعد الفقه الاشتراكي إمكانية وجود المبادئ العامة للقانون بسبب اختلاف القوانين في دول النظام الرأسمالي و دول النظام الاشتراكي باختلاف المصلحة التي يرمي إليها كل نظام، هذه النتيجة تؤدي إلى استحالة أو على الأقل – صعوبة وجود مبادئ مشتركة أو موحدة بين النظامين يمكن أن تشكل فعلا مبادئ عامة مستخلصة منهما معا، بما يفيد في الأخير عدم اعتبار هذه المبادئ مصدرا للقانون الدولي العام لعدم وجودها أصلا.
2- الاتجاه المنكر لاستقلالية المبادئ العامة للقانون كمصدر مباشر
لا ينكر هذا الاتجاه من الفقه وجود المبادئ العامة للقانون، بقدر ما ينكر استقلاليتها كمصدر مباشر و متميز للقانون الدولي العام، و عليه فهو يدمجها في مصادر أخرى لهذا القانون، أو في مفاهيم مرتبطة به
حيث يري جانب من هذا الفقه أن المبادئ العامة للقانون لا تعدو أن تكون إلا مجرد قواعد دولية عرفية، بما يجدها في نهاية المطاف من استقلاليتها و تميزها كمصدر مستقل مذكور في المادة 38 من النظام الأساسي المحكمة العدل الدولية، قفزا على مقتضى النص ذاته و تجاوزا له.
و حسب روتر” فالمبادئ العامة للقانون لا تشكل إلآ قواعد بالمعنى الواقعي الذي تعطيه لها القواعد العرفية.
في نفس الاتجاه تقريبا ذهب الفقية السوفياتي ” تونكين، حيث يرى أن المبادئ العامة للقانون تستمد إما من المصادر التعاهدية (الاتفاقية)، أو من المصادر العرفية في نفي صريح لأية استقلالية للمبادئ العامة للقانون الواردة في المادة 1 / 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
يبدو أن هذا الاتجاه أخلط بين مصدرين مستقلين مذكورين في المادة 1/ 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية بما يشكل مغالطة منطقية واضحة، من جهة أخرى لا يمكن التسليم بفكرة التطابق بين المبادي العامة للقانون و العرف الدولي بحيث تندرج الأولى في الثانية، فحتى تصبح أية قاعدة سلوك دولية عرفا دوليا يشترط أن يتكرر تطبيقها من جانب الدول على نحو ما فصلناه سابقا، في حين أن القاضي الدولي قد يطبق للمرة الأولى مبدأ من مبادئ القانون العامة على علاقة دولية لا يوجد بشأنها عرف أو معاهدة.
ثالثا: طبيعة المبادئ العامة للقانون
يتنازع طبيعة المبادئ العامة للقانون رأيان، رأي يقصر هذه المبادئ على القانون الدولي في حد ذاته، و رأي يحصرها في القوانين الوطنية:
1- المبادئ العامة للقانون ذات طبيعة دولية
بداية انتشار هذا الرأي كانت لدى أغلب الفقه الاشتراكي الذي عدل من موقفه المنكر للمبادئ العامة للقانون بفعل نهاية الحرب الباردة و بداية الانفراج في العلاقات بين المعسكرين، نتيجة انتهاج سياسة التعايش السلمي التي أفرزت – على حد زعمه- هذه المبادئ، و بذلك بأن هذا الفقه يفسر المبادئ العامة للقانون الواردة في المادة 38 السابقة بأنها مبادئ القانون الدولي أو المبادئ التي تشكل جزء من القانون الدولي و لا تنفصل عنه، و هي على سبيل المثال المبادئ التي تحكم العلاقات الودية و التعاون بين الدول الواردة في إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1970، حيث يمكن تقسيم هذه المبادئ إلى قسمين:
القسم الأول: يضم المبادئ المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، و تتمثل في:
مبدأ عدم استخدام القوة أو التهديد بها، مبدأ فض النزاعات الدولية بالطرق السلمية، مبدأ الأمن الجماعي، مبدأ نزع السلاح، مبدأ احترام الحدود الإقليمية الدول، مبدأ تجريم الدعاية للحرب.
القسم الثاني: يشمل المبادئ المتعلقة بالتعاون الدولي، و تتمثل في:
مبدأ احترام سيادة الدولة، مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مبدأ ضرورة التعاون بين الدول، مبدأ تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية، مبدأ احترام حقوق الإنسان.
2- المبادئ العامة للقانون ذات طبيعة وطنية
الرأي الراجح فقها و ممارسة على الصعيد الدولي اليوم هو ذلك الذي يفسر منطوق المادة 1/ 38-ج من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تفسيرا لفظيا غير محمل إياه ما لا يحتمل، و بذلك فهو يعتبر أن هذه المبادئ هي خلاصة ما استقرت عليه أغلب النظم القانونية الوطنية.
فبالعودة إلى ظروف إعداد النص السابق قدم اللورد ” فيلمور” بوصفه عضوا في لجنة القانونيين تقريرا يؤكد فيه أنه يجب أن يفهم من المبادئ العامة للقانون تلك المبادئ المقبولة في مجموع الأنظمة الداخلية للدول، و تدعم محاضر اللجنة بعد ذلك هذا التوجه حين تركز على أن المبادئ المقصودة هي تلك التي تم تكريسها في عدد من الأنظمة الوطنية مثل المبادئ المتعلقة بالإجراءات القضائية، على رأسها مبدأ قوة الشيء المقضي فيه المكرس في القضاء الدولي.
و بذلك فنص المادة 1 / 38-ج يقصد بالمبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتمدينة مبادئ القانون الداخلية المشتركة بين قوانين هذه الدول، بصرف النظر عن طبيعة نظامها السياسي أو درجة التقدم التي بلغتها، ما يدعم هذا المقصود و يكمله نص المادة 09 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية نفسه، الذي يشترط أن يكون انتخاب قضاة المحكمة كفيلا بتمثيل المدنيات الكبرى و النظم القانونية الرئيسية في العالم
ما يدل كذلك على الطبيعة الوطنية للمبادئ العامة للقانون مؤخرا ما ورد في نص المادة 21 من نظام روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية، حيث جاء النص قاطع الدلالة على أن المبادئ المعنية هي تلك المشتركة بين النظم القانونية الوطنية، إذ جاء في الفقرة ج من ذات المادة: “…و إلا فالمبادئ العامة للقانون التي تستخلصها المحكمة من القوانين الوطنية للنظم القانونية في العالم
رابعا : الدور المتزايد للمبادئ العامة للقانون في القانون الدولي
كانت المبادئ العامة للقانون تقوم بدور محدود نسبيا في نطاق العلاقات التقليدية بين الدول، حيث كانت هذه العلاقات تستند في أساسها إلى المعاهدة و العرف الدوليين، إن اختلاف النظم السياسية و الاقتصادية والاجتماعية و غيرها بين الأول أفرز تمایزا واضحا بين نمط العلاقات الاجتماعية على الصعيد الداخلي و بين نمط هذه العلاقات على الصعيد الدولي، مما أدى إلى محدودية الاشتراك القانوني أو التوافق حول مبادئ موحدة يمكن أن تشكل ما يسمى بالمبادئ العامة للقانون، فالتباين بين الدول على المستويات السياسية الاقتصادية والاجتماعية يؤدي بالضرورة إلى التباين على مستوى القانون المطبق داخل كل دولة
مع ذلك و رغم قلة تحقق فكرة الاشتراك القانوني التي تقضي إلى انبثاق مبادئ عامة القانون تصلح للانطباق في المجال الدولي، فقد وجد عدد من هذه المبادئ استطاع أن يلعب الدور المنوط به آنذاك في تنظيم العلاقات الكلاسيكية بين الأول، و يمكن رصد سريان هذه المبادئ في قطاعات أو مجالات متعددة، منها: مجال النظرية العامة للقانون و الحق ( القواعد الآمرة و المكملة في القانون الدولي، حقوق الأول)، النظرية العامة للعقد واستعارة تفاصيلها للمعاهدة الدولية (أركان المعاهدة، عيوب الرضا)، النظرية العامة للمسؤولية (مسؤولية الدول و شروطها و نتائجها)، و الميادين المتعلقة بإدارة العدالة (مبدأ التقاضي، المساواة أمام القضاء، وسائل الإثبات).
و بفعل زوال القطبية الثنائية و بروز النظام الدولي الجديد مطلع التسعينات من القرن الماضي و تأثيرات العولمة بعد ذلك و تحرير التجارة الدولية، بدأ دور المبادئ العامة للقانون يتزايد و يتوسع نحو قطاعات جديدة في القانون الأولي متجاوزا المجالات التقليدية السابقة، مثل قضايا البيئة و التلوث و مقتضيات حسن الجوار والقواعد المتعلقة بالمنظمات الأولية و العقود الدولية…
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك
أحدث التعليقات