محتويات المقال
العرف الدولي
ظل العرف الدولي لعقود طويلة يحتل مركز الصدارة في ظل القانون الدولي التقليدي، و الشاهد في ذلك تتبع المراحل التي مر بها هذا القانون، فقد نشأ نشأة عرفية خالصة، حيث كانت جل مبادئه مبنية على العرف حتى أخذ تسمية القانون الدولي العرفي، و استمر العرف شاغلا لهذا المركز الطلائعي و متصدرا قائمة مصادر القانون الدولي العام إلى وقت قريب، أين نشطت حركة تدوينه و تضاعف عدد المعاهدات الدولية الجماعية ، لاسيما الشارعة منها.
و التي انطوت في جوانب كثيرة منها على تقنين للقواعد العرفية المستقرة و المتداولة في التعامل الدولي، مما أدى إلى إفساح المجال للمعاهدة الدولية التي احتلت المركز السابق للعرف، فيما ارتد الأخير إلى المركز الثاني في ترتيب مصادر القانون الدولي العام.
مع هذا لم يفقد العرف الدولي مكانته كليا بل بات قرينا للمعاهدة الدولية و ملازما لها، فليس مستبعدا أن يتسبب في إلغائها أو تعديلها في مناسبات معينة، في المقابل يمكن للمعاهدة هي الأخرى أن تقوم بنفس الدور بالنسبة للعرف.
بناء على ما تقدم فإن دراسة العرف الدولي لا تخلو من بعض التعقيدات و الإشكالات، لعل أبرزها يتمثل في ضبط مفهومه واستجلاء طبيعته القانونية.
المطلب الأول: مفهوم العرف الدولي:
لم تنازع المعاهدة الدولية العرف الدولي مكانته كمصدر أول للقانون الدولي العام إلا مع القرن التاسع عشر . حيث تنامي ظهور المعاهدات الدولية و باتت من جانبها تسهم بقسط وافر في إنشاء قواعد القانون الدولي العام من جهة، و بلورة و تثبيت القواعد العرفية القائمة من جهة أخرى عن طريق تدوينها،
فمنذ مؤتمر وستفاليا العام 1648 مرورا بمؤتمر فينا لعام 1815 وصولا إلى مؤتمري لاهاي لعامي 1899 و 1907 و ما بعدهما من مؤتمرات دولية، شهدت أغلب القواعد العرفية تدوينا من خلال عدد من المعاهدات التي توجت بها المؤتمرات الدولية السابقة و غيرها، بالإضافة إلى حملات التدوين التي رعتها كل من منظمة عصبة الأمم 1919 ومنظمة الأمم المتحدة 1945.
الأمر الذي أضفى على المعاهدة شرعية لم تتوافر للعرف و أذى بها إلى التفوق عليه بفعل التطور الذي طرأ على الحياة الدولية، حيث لم يستطع العرف ببطئه الاحتفاظ بمكانته السابقة ، فتراجع فاسحا المجال للمعاهدة التي أثبتت قدرتها أكثر منه على القيام بهذا الدور، كونها جاهزة دوما للتفاعل مع المستجدات الدولية و التكيف معها لبساطة إجراءاتها وسهولة تعديلها مقارنة مع العرف.
المطلب الثاني : أركان العرف الدولي:
يشترط لنشوء العرف الدولي على غرار العرف الداخلي ركنان أساسيان: رکن مادي و رکن معنوي
أولا- الركن المادي
يتمثل الركن المادي للعرف الدولي في السلوك الذي درج على إتباعه أشخاص القانون الدولي العام من دول ومنظمات دولية، و يصطلح عليه ” السابقة الدولية “، و من الثابت أن السوابق التي تكون الركن المادي العرف الدولي يشترط فيها التواتر، و العموم، و الاتساق و التماثل:
1- التواتر (التكرار):
يقصد بالتواتر استمرارية و تعاقب و اضطراد السلوك الدولي أو السابقة الدولية المشكلين للركن المادي للعرف الدولي، و شرط التواتر کرسه القضاء الدولي في أكثر من مناسبة، فقد اشترطت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في 1950 بشأن قضية اللجوء السياسي بين البيرو و كولومبيا” أن يكون الملوك التولي متواترا ومودا.
أما فيما يتعلق بالمدة الزمنية المتطلبة لتكون السلوك الدولي أو السابقة، فالراجح فقها و قضاء أنه من الطبيعي أن ينقضي القدر المعقول من الوقت الذي يسمح بتبلور هذا التصرف أو السابقة و تحقق تواترهما، إلا أن قصر المدة المتطلبة لاستقرار التصرف أو السابقة لا ينهض حائلا دون تكوين القاعدة العرفية، و هو ما أكده القرار التحكيمي الصادر سنة 1969 في قضية الطيران المدني بين فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية ” و المتعلق بالخلاف حول تفسير الاتفاقية المبرمة بين الطرفين سنة 1948.
و تواتر السابقة في هذا الخصوص يقتضي فيها الثبات و الاستقرار، ففي قضية اللجوء السياسي المشار لها آنفا أوضحت المحكمة أن ما طرح عليها من وقائع ينطوي على الغموض ، و عدم التحديد و التناقض على النحو الذي لا يسمح لها بالقول بأن هناك سلوكا متواترا، أو موحدا يصلح أخذه عرفا دوليا.
2 – العمومية:
إضافة إلى التكرار أو التواتر ، يشترط لتمام الركن المعنوي للعرف الدولي أن يكون الملوك أو السابقة قد درج على إتباعهما عدد كبير من أشخاص القانون الدولي، و بمفهوم المخالفة فسلوك دولة واحدة مهما طال و تكرر لا يكفي بمفرده لتكوين القاعدة العرفية الدولية ما دامت الدول الأخرى لم تسلك مسلك هذه الدولة في مناسبات مماثلة، و عليه فإن عدد الدول المشاركة في السلوك أو السابقة يشكل معيارا للقول بعمومية القاعدة أو قبولها على أوسع نطاق، لكن هل يشترط تبعا لذلك أن تتم هذه المشاركة و هذا القبول من كل الدول أو من بعضها فقط؟
ذهب الاتجاه التقليدي – و هو المرجوح حاليا- إلى اشتراط نصاب الإجماع للقول بتوافر خاصية أو شرط العموم، لكن الرأي الحديث فقها لا يطالب بتصاب أكثر من الأغلبية مع انعدام اعتراض بقية الدول صراحة على هذا السلوك أو السابقة، حيث يقوم انتقاء الاعتراض الصريح دليلا على قبول هذه الدول ضمنيا للملوك أو السابقة.
و إن كانت عمومية الملوك مسألة نسبية بدورها على غرار التكرار أو التواتر، فالسلوك الصادر مثلا عن دولتين فقط و هما الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحاد السوفياتي سابقا بشأن استخدام الطاقة النووية ، و المتمثل في التصريحات المتبادلة بينهما و الالتزام بها لسنوات من طرفهما و من طرف، بقية الدول تبعا لهما ، يمكن اعتباره في هذا الصدد مسابقة أو سلوكا عاما مكونا لعرف دولي دونته معاهدة 1967.
و هذه النسبية التي تحيط بخاصية أو شرط العموم ، هي التي تؤدي فيما بعد إلى ما يعرف بالعرف العالمي والعرف الإقليمي، أو العرف العام و العرف الخاص كما سيتبين فيما بعد.
3 – اتساق السلوك أو التمائل:
يقصد بهذا الشرط أن تكون سلوكات أو تصرفات الدول المكونة للركن المادي للعرف الدولي متماثلة أو موحدة أي ألا تكون متعارضة أو متناقضة، و ذلك ما أكدته محكمة العدل الدولية في قضية اللجوء السياسي 1950 المشار لها سلفا، و كذا في حكمها الصادر سنة 1960 في قضية حق المرور في الإقليم الهندي”، حيث رأت أنه ليس هناك سبب لعدم الاعتداد بالتعامل المتواصل و المستمر بين دولتين، و المقبول منهما لإدارة علاقاتهما كأساس للحقوق و الالتزامات المتبادلة بينهما .
في قضية اللجوء السياسي” أنكرت المحكمة الطابع العرفي للسلوك المدعى به، و ذلك لكونه منطويا على غموض و عدم تحديد و تناقض ، بما ينأى به عن التواتر و الوحدة أي الاتساق و التماثل ، غير أن ذات المحكمة و في حكمها الصادر في 1951 بشأن قضية المصايد” رأت أن القدر اليسير من التناقض لا يحول دون إنشاء القاعدة العرفية الدولية.
ثانيا – الركن المعنوي:
لا يكفي الركن المادي بمفرده لتحويل السلوك أو السابقة الدوليين إلى عرف دولي، فلا بد أن يقترن هذا الركن بالركن المعنوي، و يعني هذا الأخير عموما تكون عقيدة لدى من ينتهج السلوك المكون للركن المادي للعرف مؤداها أن السير على مقتضى ذلك السلوك قد أصبح واجبا قانونيا، أي أن من يأتي السلوك إنما يأتيه لأنه يعتقد بأنه تعبير عن القانون.
و عليه ينبغي أن يكون السلوك الدولي قد صدر مع اعتقاد أشخاص القانون الدولي و شعورهم بإلزاميته ، لأنه متضمن لحق أو واجب قانوني، و تظهر أهمية الركن المعنوي للقاعدة العرفية في كونه يمثل معيارا للتمييز بينها و بين بقية القواعد المرعية في العلاقات الدولية كقواعد الأخلاق و المجاملات الدولية ، إذ تفتقد هذه القواعد العنصر المعنوي المتمثل في الشعور و الاعتقاد بإلزاميتها، على خلاف القاعدة العرفية الدولية.
وقد أكدت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر سنة 1969 بشأن قضية الجرف القاري لبحر الشمال” بين ألمانيا من جهة، و الدانمارك و هولندا من جهة أخرى أن السلوك المكون للممارسة المعنية يجب أن يكون في ذاته أو بالطريقة التي تم بها دليلا على الاعتقاد بأن هذه الممارسة صارت ملزمة وفقا لقاعدة من قواعد القانون الدولي، لذلك فإن الدول المعنية يجب أن تشعر أنها تتصرف وفقا لما يساوي الالتزام القانوني…
هذا و تجدر الإشارة إلى أن عنصر الاعتقاد أو الشعور بالإلزام يجب ألا يقتصر على الدول التي يصدر عنها السلوك، و إنما ينبغي أن يتوافر لدى بقية الدول الاعتقاد بأن ذلك السلوك أو تلك السابقة إنما يصدران عن إلزام قانوني، لأن هذه الدول يمكنها الحيلولة دون استقرار العنصر المعنوي بإبداء اعتراضها أو احتجاجها على هذا السلوك أو هذه السابقة، مثلما حدث بالنسبة لتحديد مسافة البحر الإقليمي حيث عبرت دول كثيرة عن معارضتها لتحديد بعض الدول لمسافة بحرها الإقليمي بما يتجاوز ثلاثة أميال ، معتبرة مسافة الثلاثة أميال آنذاك عرفا دوليا ملزما .
المطلب الثالث: أنواع العرف الدولي:
نجد على مستوى العرف التولي ما يسمى بالعرف العام العالمي، و العرف الخاص (الإقليمي)، كما أسفر تطور القانون الدولي منذ ستينات القرن الماضي عن بروز ما يسمى بالعرف الآني أو الثوري.
أولا- العرف الدولي العام (العالمي):
العرف العام أو العالمي هو ذلك الحرف الذي يسري على كافة أشخاص القانون الدولي دون استثناء، و بالتالي لا ينحصر في جزء معين من الكرة الأرضية، أو يقتصر تطبيقه على العلاقة بين عدد محدد من أشخاص القانون الدولي دون الأشخاص الأخرى، و قد قررت محكمة العدل الدولية في قضية الجرف القاري ” المشار لها سلفا أن الطبيعة العامة للقاعدة العرفية التي يجب تطبيقها على كل أعضاء المجتمع التولي و بطريقة متساوية لا يمكن استبعادها ، أو وضع تحفظ بشأنها من جانب واحد ، أو وفقا لإرادة أحد أشخاص المجتمع الدولي .
ثانيا – العرف الدولي الخاص (الإقليمي):
يصطلح عليه أيضا بالعرف القاري أو المحلي ، و هو العرف الذي يقتصر تطبيقه على قارة معينة أو في إطار علاقات بين عدد محدود من الدول العربية، الإسلامية، الإفريقية، الأوربية، الأمريكية…)، و على الدولة التي تدعي وجود هذا النوع من العرف أن تقوم بإثباته ، حيث يقع عليها عبء الإثبات أمام القاضي أو المحكم الدوليين، و غالبا ما ينتشر العرف الخاص بين مجموعة من الدول تربطها صلات تاريخية و حضارية وعقائدية أو حتى ظروف مشتركة سياسية و اقتصادية و غيرها (دول العالم الثالث مثلا)، فعلى مستوى منظمة الدول الأمريكية المنشأة بموجب میثاق بوقوتا 1984 توجد مجموعة من الأعراف الأمريكية.
المصادر والمراجع:
د. صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام
د. ابراهيم محمد العناني، القانون الدولي العام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984.
د. مصطفى ابو الخير، القانون الدولي المعاصر، دار الجنان للنشر والتوزيع، 2017.
د.طالب رشيد يادكار، مبادئ القانون الدولي العام، ، مؤسسة موكرياني للبحوث والنشر، 2009.
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك
تحميل المقال: