محتويات المقال
السياسية الجنائية وسياسة التجريم والعقاب
ان الجريمة ظاهرة اجتماعية ارتبطت بالإنسان منذ القدم وهي تعد تعبيرا عن عدم الخضوع لمعايير الضبط الاجتماعي مما يحدث اضطرابا في العلاقات داخل المجتمع.
وقد حاولت مختلف التشريعات الجنائية تأمين المجتمع بالبحث عن الوسائل الناجعة لمكافحة الجريمة، فاتجهت نحو اعتماد أسلوب الردع من ایلام او ايذاء الجاني وزجره عن الأفعال المنحرفة الضارة بالمجتمع التي ارتكبها.
وقد ساهمت المدارس التي اهتمت بموضوع العقوبة في إعادة صياغة الفكر القانوني الجنائي ورسمت معايير السياسات الجنائية.
تعتبر الجريمة نتيجة مباشرة للاختلال في بنيات المجتمع قبل أن تعتبر اعتداءا على المعايير القانونية، و أن المجرم يعتبر مذنبا وضحية في نفس الوقت، فهو مذنب إذا نظرنا إليه من زاوية اعتدائه على معايير الضبط الاجتماعي، وضحية إذ نظرنا إليه من زاوية الظروف المحيطة به عند ارتكابه الجريمة.
نتيجة لذلك أضحى الجزاء الجنائي وسيلة قانونية للدفاع عن أمن المجتمع الجريمة واستقراره وفي ذات الآن أداة لإصلاح الجناة وإعادة إدماجهم.
فعلم العقاب يعتبر جزءا من السياسة الجنائية لارتباطه الوثيق بموضوعاتها، والسياسة العقابية هي إحدى المظاهر السياسية التي تتبعها الدولة في إنزال الجزاءات المناسبة على المجرمين،
الفقرة الأولى: السياسة الجنائية
تبحث السياسية الجنائية وجود السبل الكفيلة لمكافحة الجريمة واعتماد أساليب ناجعة لتوفير أسباب الضبط الاجتماعي وتحصين المجتمع من الاضطرابات التي تترتب عن السلوكات المنحرفة وتؤثر على استقراره وأمنه ولعل التطور الذي شهدته الجريمة سيما في ظل الثورة التكنولوجية الحديثة والأبعاد التي بدأت تتخذها والتي تتجاوز جغرافية البلد الواحد، تجعل على عاتق التشريعات الجنائية تبني سياسة جنائية تتجاوز الأطروحات التقليدية عن طريق إعادة النظر في القواعد المنظمة للتجريم والعقاب.
إضافة إلى تصاعد المد الحقوقي والرهانات المعقودة على الالتزامات الدولية التي تفرض دمج ثقافة حقوق الإنسان في السياسات الجنائية مما يفرض اعتماد معايير واضحة ودقيقة تهم العدالة الجنائية
وقد تبلورت السياسة الجنائية على يد مجموعة من المدارس التي طبعت تاريخ العدالة الجنائية واعتمدت أطروحات فلسفية للظاهرة الإجرامية وصاغت مجموعة من المفاهيم، وأدت إلى إعادة صياغة الفكر الجنائي الحديث، حيث توصلت إلى اعتبار الجريمة نتاج طبيعي للاختلال في بنية المجتمع قبل اعتبارها اعتداءا على المعايير القانونية المحددة، واعتبار المجرم مذنب وضحية في نفس الوقت.
وبالتالي تطورت وظائف الجزاء الجنائي من اعتباره أداة للحفاظ على أمن المجتمع وإدماجهم، وبذلك أصبح الفكر القانوني يراهن على أن الجريمة شان مجتمعي لا يمكن للدولة وحدها بالرغم مما تتوفر عليه من أجهزة وآليات القضاء عليها وحدها، بل يجب أن تتظافر جهود جميع مكونات المجتمع في ذلك، وعليه فان السياسة الجنائية أضحت هما مجتمعيا يجب أن يستحضر كل هذه المعطيات والاجتهاد في إيجاد الوسائل والآليات الناجعة التي تحيط بالجريمة بمختلف أنواعها واعتماد خطط وأساليب متطورة مع الاستفادة من التراكمات الفقهية التي راكمتها مجموعة من المدارس التي اهتمت بموضوع الظاهرة الإجرامية
بناءا على ذلك، فإن هذا التطور يفرض على التشريعات الجنائية عدم الاقتصار فقط على أشخاص معينين في ذواتهم يمكن تتبع أنشطتهم بالمعاقبة عليها كلما خرقت قواعد القانون الجنائي، ولم تعد الحدود الفاصلة بين الدول متحكمة بشكل كلي في الأنشطة الإجرامية مما يستدعي إعادة النظر في الوسائل التقليدية لآليات العدالة الجنائية، وفي القواعد المنظمة التجريم والعقاب باعتبارها الأداتان الأساسيتان للسياسة الجنائية.
يتضح جليا أن السياسة الجنائية ارتبطت بتطور الفكر الجنائي الذي يستمد خصوصيته من تطور الظاهرة الإجرامية نفسها، و تحرص على تحقيق نوع من الملاءمة والتوازن بين حق الدولة في العقاب ومنع الجرائم بهدف حماية مصالح المجتمع وبين حق المتهم في الإصلاح والتأهيل.
وبالرجوع إلى المدارس الفقهية التي تناولت السياسة الجنائية نجدها تختلف في تصوراتها وأطروحاتها باختلاف مرجعياتها الفلسفية والعلمية واتجاهاتها الفكرية والسياسية
فقد عرف بعض الفقهاء السياسية الجنائية بأنها مجموعة من الوسائل التي تحددها الدولة كرد فعل ضد الجرائم المرتكبة أورد فعل الدولة ضد الجريمة عن طريق قانون العقوبات.
ويظهر من هذا التعريف أنه لم يشمل السياسة الجنائية بشكل عام بحيث قصر أهدافها في زجر الجريمة عن طريق اعتماد أسلوب المنع والعقاب، والذي ساد طيلة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حيث ظهرت اتجاهات جديدة حاولت مقاربة السياسة الجنائية مقاربة علمية تأخذ بعين الاعتبار ضرورة مكافحة وإصلاح المجرم فعرفها الفقيه “فيليبو کراماتيك” رائد مدرسة الدفاع الاجتماعي بأنها :
“دراسة أفضل الوسائل العلمية للوقاية من الانحراف الاجتماعي وقمعه باعتبار أن غاية الدفاع الاجتماعي إصلاح الأفراد وتأهيلهم اجتماعيا”
وبالرجوع للفكر الإسلامي نجد “ابن خلدون” يذهب في مقدمته إلى اعتبار الجريمة واقعة اجتماعية لابد من وجودها في كل المجتمعات البشرية، وأن مواجهتها تستدعي وجود حاکم بردع الناس ويحكمهم، وأنه لابد لهذا الحاكم من أداة، ولا بد لأداته من سياسة ينظم بها أمر الناس”
نستنتج أن السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية قوامها درء المفاسد الواقعة والمتوقعة من الفرد والمجتمع، وإقامة الحدود والقصاص لإقرار الأمن بكافة الوسائل والطرق فكرية كانت أم مادية على ضوء المبادئ العامة للشريعة الإسلامية لتحقيق المنفعة وإقامة العدل وحماية الصالح العام، فالسياسة الجنائية تهدف حماية مصالح الأفراد والدولة وأن القانون هو الذي يحدد المصالح الجديرة بالحماية
وقد ظهرت الملامح الأولى للسياسة الجنائية بالمغرب بصدور قانون المسطرة الجنائية بتاريخ 10 فبراير 1959 والقانون الجنائي بتاريخ 26 نونبر 1962 وتطورت مع تطور المجتمع المغربي حيث توالت مجموعة من التعديلات آخذة بعين الاعتبار التغييرات المتلاحقة التي يشهدها المغرب وانخراطه في المنظومة الحقوقية
فأضحت السياسة الجنائية العدالة الإصلاحية تهتم بالعقوبات وبدائلها وبالأحكام القضائيةلعدالة الإصلاحية وكيفية معاملة المجرمين وحماية الضحايا من خلال إيجاد السبل الضامنة لمنع الجريمة.
الفقرة الثانية : سياسة التجريم والعقاب
يضطلع القانون الجنائي بدور هام من خلال توطيد رسالته المتمثلة في تحقيق الأمن في المجتمع والسهر عليه وذلك بتحديد الأفعال المجرمة و المحظورة التي ينبغي عدم إتيانها لما يترتب عليها من تهديد المجتمع بالضرر وتعريض آمنه للخطر، وسيلته في ذلك وضع الجزاءات المناسبة على كل خروج على هذا النظام في إطار الجزاءات المناسبة عن كل خروج على هذا انظام في إطار فلسفة تضمن احترام القانون.
فالمشرع الجنائي يسعى بذلك إلى تكريس قاعدة أساسية تنبني عليها المنظومة الجنائية ككل متمثلة في إقرار الجريمة والعقوبة المترتبة عليها، وهو ما يعبر عنه بشرعية التجريم والعقاب التي يحكمها ضابطين أساسيين:
الأول ضابط التكليف وهو الذي يتضمن الأمر والنهي الموجه لعموم المخاطبين بالقاعدة، والثاني ضابط الجزاء وهو تقریر العقوبة المناسبة للجريمة المرتكبة.
أولا : سياسة التجريم
إن سياسة التجريم تقتضي توفير الحماية اللازمة لمصالح الأفراد والجماعات ومن خلالها المجتمع، وذلك عن طريق بيان المراكز الجديرة بالحماية ومنع المساس بها وإلحاق الضرر لها بالتعدي والانتهاك، لذلك تهتم الدولة بإيجاد القواعد القانونية الكفيلة بتنظيم سلوك الأفراد والجماعات، من خلال تبني وظيفة جزائية تعبر عن مدى تقرير المشرع لمصالح الأفراد والجماعات وهو ما يعبر عنه بتوفير أسباب الأمن القانوني.
وسياسة التجريم تنبع من الحاجة الملحة إلى حماية المجتمع وفقا لظروفه واحتياجاته وهي بذلك تتأثر بنظامه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وبتقاليده ناهيك عن محيطه الإقليمي والعالمي فيعتبر التجريم هو أقصى مراتب الحماية التي يضفيها التشريع على نوع معين من المصالح التي تهم المجتمع.
وبالرجوع إلى تطور مظاهر سياسة التجريم يتضح أنها تتأثر بطبيعة المجتمعات والقيم السائدة فيها والتغيرات الاجتماعية التي تعكس التحولات التي يشهدها المجتمع والتي تغذيها المعتقدات والتقاليد والتصورات العقدية و غيرها, فسياسة التجريم تهم الجانب السلوكي في بعده المادي الذي يرى فيه المجتمع انتهاكا لأمنه واستقراره ومساسا بحقوق الأفراد وحرياتهم والذي يجب أن حظر إتيانه والذي يأخذ أشكالا وصورا شتى، هذا الحضر الذي لا ينتج آثاره في شكل أمر أو نهي إلا بترتيب الجزاء المناسب المتمثل في إقرار العقوبات المناسبة.
ثانيا : السياسة العقابية
تعكس السياسة العقابية موقف الدولة إزاء الظاهرة الإجرامية، فالدولة في كفاحها ضد الجريمة يلعب دورا وقائيا ودورا عقابيا.
فالدور الوقائي أو ما يسميه بعض الفقه بالسياسة الاجتماعية يروم القضاء على الظروف الاجتماعية المنتجة للجريمة.
أما الدور العقابي فهو الذي يستهدف المجرم بغية استئصال الفعل الجرمي من شخصه والحيلولة دون معاودته عن طريق ممارسة التأثير الفردي الذي يقر على المحكوم عليه من خلال اعتماد العقوبة كوسيلة ردعية تقابل جسامة الفعل المرتكب
فمنطق السياسة العقابية يتجه إلى توفير الوسائل الوقائية للقضاء على الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تعتبر مساعدة في اقتراف الجريمة، وتقويم المجرم وزجره بهدف صده عن ارتكاب أفعال جرمية أخرى.
غير أن هذه الوظائف تطورت فلسفتها مستفيدة من علم دراسات علماء الإجرام التي نقلت الاهتمام من دائرة الفعل (الجريمة) إلى دائرة الفاعل (المجرم)، الذي يجب أن يسلط الضوء على شخصه وخطورته الإجرامية وان تتكاثف الجهود ليس فقط من أجل إيلام الجاني بل أيضا من أجل علاجه و تقویم شدوده
إن الفكر القانوني أبدع في إيجاد وسائل بديلة للعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة التي أبانت عن عدم فعالیتها وجدواها في الحد من الجريمة بالنظر إلى الآثار السلبية المترتبة عنها التي تتجاوز شخص المجرم إلى محيطه العائلي والاجتماعي بالاجتهاد في توفير بدائل لا تنزع المجرم من مجتمعه بقدر ما تقربه أكثر منه، وتضمن فعالية أكثر في تحقيق الردع وتقويم السلوك المنحرف.
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك اضغط هنا
أحدث التعليقات