محتويات المقال
التدابير الجنائية
التدابير الجنائية تحمل في طياتها بلسما علاجيا تقوم بدورها إلى جانب العقوبة. بحيث أصبح الاعتقاد راسخا لدى فلاسفة وفقهاء علم العقاب بأن العقوبة وحدها تعد وسيلة ناجعة في حماية المجتمع والحد من الجرائم، والتي أظهرت إخفاقها معالجة الظاهرة الإجرامية، مما دفع إلى إيجاد بدائل وحلول لا تروم ایلام الجاني كما هو الشأن للعقوبة، وإنما إلى إيجاد صور أخرى من الجزاء تهدف معالجة المجرم وتوفير أسباب الحد من الجريمة،
الفقرة الأولى : ماهية التدابير الجنائية
إن المناداة باتخاذ التدابير الجنائية إلى جانب الإجراءات العقابية لما تحتويه من جرعات نفسية تنصب على علاج سلوك المجرم ضاربة في أعماق التاريخ، حيث نادي بها فلاسفة اليونان القدامى وعرفتها مجموعة من التشريعات القديمة والحديثة.
غير أن هذه التدابير لم تعرف طريقها إلى التبلور في شكل نظام قانوني إلا على يد المدرسة الوضعية التي صاغت نظرية عامة للتدابير حددت من خلالها عناصرها وأحكامها، بعد أن لاحظ أنصار ورواد هذه المدرسة إفلاس نظام العقوبات في مكافحة الجريمة وعجزه عن الدفاع عن المجتمع سيما بخصوص المجرمين المجانين والمدمنين على المواد المسكرة، حيث لا تجدي العقوبة في علاجه ولا تحد من خطورتها الإجرامية، من أجل ذلك كانت ضرورة البحث عن نظام بديل من خلال الاهتمام بشخصية الفاعل والعوامل المؤثرة فيه و التي تدفعه إلى انتهاج السلوك الإجرامي، لينتهوا في أبحاثهم إلى استبعاد المسؤولية القائمة على حرية الاختيار واستبعاد العقوبة بالتبعية لتحل عليها المسؤولية الاجتماعية القائمة على الخطورة الإجرامية التي يجب أن تواجه بالتدابير الجنائية اللازمة والملائمة للدرجة الإجرامية
وحاولت حركة الدفاع الاجتماعي التي نادي بها جراماتیكا قلبي النظام الاجتماعي رأسا على عقب لتحل محل مبادی الدفاع الاجتماعي تدابير الدفاع الاجتماعي، لينادي بفكرة توحيد العقوبات والتدابير الوقائية في نظام قانونی واحد يتضمن عدد كبير من التدابير يختار القاضي من بينها ما يتلاءم مع شخصية المجرم ودرجة خطورته، غير أن هذه الدعوات الفلسفية أجمعت على ضرورة حماية حقوق الإنسان المجرم وصون كرامته وأدميته و أنسنة النظام العقابي بشكل عام والتدابير الوقائية بشكل خاص.
وقد أخذ المشرع المغربي واستفاد من القوانين الجنائية المعاصرة المتأثرة بالفلسفة الوضعية في الأخذ بالتدابير الوقائية وميز فيها بين تدابير وقانية عينية وأخرى شخصية
غير أن المشرع الجنائي المغربي أخذ بهذه التدابير باعتبارها زائدة عن العقوبة حيث لا يمكن اتخاذها لوحدها بل لابد أن تكون مقترنة بعقوبة أصلية أو إضافية، ولعل الأساس الذي اعتمده المشرع المغربي في الجمع بين العقوبة والتدابير الوقائية ينبني على أن العقوبة تطال المجرم كجزاء على الذنب الذي اقترفه في الماضي، أما التدابير الوقائية فينصرف أثرها إلى المستقبل بتوفير الأسباب الكفيلة لحماية المجتمع من الخطورة الإجرامية التي يحملها معه الجاني والتي تؤدي به إلى ارتكاب أفعال إجرامية جديدة.
وفي تقديرنا وبالرغم من وجاهة هذا التوجه من المشرع الجنائي فإن عدم الأخذ بالتدابير الجنائية وحدها كجزاء يمكن أن ينتج أثره في تقويم المجرم وضمان عدم رجوعه إلى ارتكاب السلوكات المنحرفة فإن عدم الأخذ به لوحده يتناقض مع الفصل الأول من القانون الجنائي الذي ينص على أنه : “يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية”
وما يلاحظ على موقف المشرع المغربي أنه يتستر في إدخال التدابير في تشريعه الجنائي الذي أصبغ عليها وصف العقوبة بعدما جعلها مقترنة بهذه الأخيرة، حيث قلما يتم الأخذ بهذه التدابير من طرف القضاء الجنائي ، الذي يعتبر العقوبة كافية في تحقيق الردع ويغيب عنه أن التدابير يمكن أن تلعب دورا ايجابيا في الحد من الجريمة وفي معالجة المجرم من شذوذه الإجرامي، وأن العقوبة يمكن أن تؤدي به إلى زيادة تمرده الاجتماعي واحترافه الأفعال الجرمية وتكون لها آثار وخيمة تنصرف كذلك إلى محيط المجرم العائلي والاجتماعي.
فإذا كانت هذه التدابير قد أظهرت جدواها في العديد من التشريعات الجنائية المقارنة فإنه يجب الأخذ بها في الممارسة القضائية متى توفرت شروطها واقتنعت المحكمة بدورها في تحقيق غاية المشرع والمجتمع في توفير أسباب الأمن القضائي.
انسجاما مع مواقف الفقه فان الجزاءات الجنائية تتمثل في مجموعة من الاجراءات التي يقررها القانون ويوقعها القاضي على من ثبتت خطورته الإجرامية بقصد مواجهة هذه الخطورة.
إذن، يظهر أن التدابير الجنائية تأخذ بعدا إعلاميا حيث تنم عن مجموعة من الإجراءات التي يتخذها المجتمع لمواجهة الشذوذ الإجرامي وتوقع على الجناة بهدف وضع حد لآثار الجريمة.
فالتدابير الجنائية نظام قانوني قائم الذات بهدف حماية المجتمع من الخطر الكامن في بعض الأفراد الذين أصبحوا على استعدادهم الإجرامي مهيئين أكثر من غيرهم لارتكاب ما من شأنه أن يؤدي إلى الاضطراب الاجتماعي كالمجانين والعائدين والأحداث ومدمني المخدرات ، و يكون إما بالتحفظ عليهم وإما بعلاجهم وإما بتهذيبهم وإصلاحهم قصد إعانتهم على استرداد مكانتهم ودورهم في المجتمع.
الفقرة الثانية : خصائص التدابير الجنائية
على غرار العقوبة، تتميز التدابير الجنائية بمجموعة من الخصائص يمكن إجمالها في ما يلي:
أولا : شرعية التدابير الجنائية :
تخضع التدابير الجنائية مثل العقوبات لمبدا الشرعية، حيث لا يمكن الحكم بها ما لم ينص عليها المشرع صراحة في نص قانوني، وهو ما يستفاد من الفصل 5 من القانون الجنائي المغربي الذي نص في فقرته الثانية أنه : لا يجوز الحكم بأي تدبير وقائي إلا في الأحوال وطبق الشروط المقررة في القانون” فالقاضي الزجري لا يملك أية سلطة في الحكم بتطبيق تدابير غير منصوص عليها في القانون الجنائي إلا في تقديره لاختيار التدبير الملائم الذي يتناسب مع الخطورة الإجرامية للمجرم ذاته.
فتكريس مبدأ شرعية التدابير الجنائية يستمد أهميته من أن التدبير يعد انتقاضا من حقوق وحرية الفرد، لذلك كان لابد من تقنينه ووضع أحكامه في نصوص تشريعية واضحة لما يترتب عليه من خطورة تمس بمراكز الجناة، فيكون من الطبيعي جدا عدم ترك وضعه للقضاة
ثانيا : فورية التدبير الجنائي
إن التدابير الجنائية لا تخضع لقاعدة عدم رجعية النص الجنائي، وبالتالي فإنها تنفذ بشكل فوري على الفاعل ولو تقرر نص صریح بعدم صيرورة هذا التدبير نافذا، فمتى ارتكب الفعل في ظل القانون السابق يبقى أثره ساريا ويطبق فورا على كل فعل لم يصدر بشأنه حكما زجريا أصبح نهائيا ، و العلة في ذلك أن المشرع يحتاط للمستقبل من الخطورة الإجرامية حفاظ على أمن واستقرار المجتمع.
ثالثا: شخصية التدبير الجنائي
معلوم أن العقوبات والتدابير تطبق بشكل شخصي أي أنها تنصرف إلى مرتكب الجريمة سواء كان فاعلا أصليا أو مساهما أو شريكا.
وبالتالي، فإن التدبير الجنائي ينحصر في دائرة المجرم إلا في حدود استثنائية وضيقة تتعلق بالنواحي المالية كالحكم بمصادرة الأشياء الضارة أو الخطيرة أو المحظورة أو الحكم بإغلاق محل أو مؤسسة استغلت في ارتكاب الجريمة، فحكم المصادرة أو الغلق يسري لزوما في مواجهة صاحب المحل أو مالك الأشياء الضارة أو الخطيرة التي لها علاقة بالجريمة حتى ولو ثبت أنه لم يساهم أو يشارك في ارتكاب الجريمة
رابعا : اقتران التدبير الجنائي بالخطورة الإجرامية
ان الدافع الأساسي في اتخاذ التدبير الجنائي يقوم على أساس الخطورة امية الكامنة في المجرم الذي يخشی معاودته إتيان سلوك إجرامي قد يضر بالمجتمع مستقبلا
فالخطورة الإجرامية هي حالة نفسية لصيقة بشخص المجرم تنذر باحتمال و على ارتكاب جريمة اخرى في المستقبل” وبالرجوع إلى القانون ان المغربي نجد أن المشرع لم يعطي تعريف للخطورة الإجرامية، وترك أمر تحديدها موكولا إلى القاضي الجنائي دون وضع ضوابط أو معايير تتحقق بها هذه الخطورة الإجرامية
الفقرة الثالثة: شروط وأغراض تطبيقات التدابير الجنائية
سبق أن أشرنا أن التدابير الجنائية جاءت على انقاض فشل السياسة العقابية التقليدية التي كانت تعتمد العقوبة وحدها كوسيلة في محاربة الجريمة، وبالتالي ليس هناك شك في أن علة وجود التدابير الجنائية هي ذاتها أسباب قصور العقوبة عن أداء أهداف الجزاء الجنائي
فمنطق العقوبة يهدف نقل المجرم من تمثل الألم إلى مرحلة التذوق الفعلي عن طريق إصابة حق من الحقوق اللصيقة بشخصه كحقه في الحياة أو ذمته المالية
وهكذا تصبح العقوبة قدرا من الألم يعتمده المجتمع في تحسيس المجرم بما قد يترتب عن إجرامه من متاعب وبالتالي تقويم إرادته وتحسين سلوكه.
غير أن هذا الإيلام لا ينفع مع جميع المجرمين بفعل مرض عقلي أو نفسي أو انعدام الإدراك مما تتنافى معه حرية الاختيار وبالتالي فان المنع من ارتكاب الجرائم قد لا يتحقق عن طريق الإيلام وإنما عن طريق العلاج الذي لا يتحقق إلا باتخاذ التدبير الجنائي الملائم
صفوة القول، فان شروط إبداع وإيجاد التدابير الجنائية تولدت عن عجز العقوبة وقصورها في أداء الوظيفة المنوطة بها وبالتالي سد العجز والقصور الذي لازم العقوبة في منع الشذوذ الإجرامي لتتكامل العقوبة مع التدبير الجنائي في أن الأولى ذات طبيعة ردعية والثاني يحمل في ثناياه أبعادا وقائية وعلاجية
هذا بخصوص الشروط العامة التي أدت إلى ظهور التدابير الجنائية بشكل عام، وثمة شروط خاصة لتطبيق هذه التدابير يتم اعتمادها في اللجوء إلى التدبير كصورة من صور الجزاء الجنائي الممكن اختزالها في شرطين أساسين:
الشرط الأول:
أن يتم ارتكاب جريمة سابقة مما يكون معه ظرف السبق الإجرامي متوفر ولم تسعف معه العقوبة في ثني الفاعل عن الإقدام عن جريمة أخرى وإقلاعه عن سلوك الإجرامي.
فالسبق الإجرامي أو العود إلى الجريمة ينطوي على خطورة إجرامية تتجسد في شخص المجرم الذي يحتاج إلى علاج بغية استئصال جرثومة الجريمة منه.
غير أن جانب من الفقه يرى أنه لا لزوم لاشتراط وقوع جريمة سابقة بعلة أن التدابير الجنائية هي موجودة أصلا لمواجهة ودرء الخطورة الإجرامية وبالتالي لا يجب انتظار وقوع جريمة سابقة طالما أمكن توافر القرائن الدالة على وجود الخطورة
إلا أن اشتراط وقوع جريمة سابقة ليس غاية لذاته بل اعتباره مؤشرا على توفر عنصر الخطورة، وهو أمر موكول للسلطة التقديرية للمحكمة التي يمكنها استنباط الخطورة الإجرامية من وقائع وملابسات القضية المعروضة عليها
الشرط الثاني :
إن وقوع جريمة سابقة بالرغم من اعتباره مؤشر على الخطورة الإجرامية للمجرم قد لا يكفي وحده في الخضوع للتدبير الجنائي، ذلك أن هذا الأخير رهين بمدی تحقق شرط الخطورة من عدمه.
فإذا كانت العقوبة على أساس خطأ المجرم فإن التدابير الجنائية تقوم على أساس الخطورة الإجرامية للمجرم فإذا انتفت المسؤولية الجنائية عن بعض المجرمين بسبب انعدام أهليتهم الجنائية كالمجانين مثلا فان ذلك لا يعفى من اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون معاودة ارتكاب الجرائم مستقبلا سيما إذا كانت حالتهم الخطيرة تنذر باحتمال وقوع الجريمة
كما لا يمكن التنبؤ بأن الجريمة التي يمكن اقترافها هي أخف ضررا من الجريمة السابقة، فتقدير الخطورة الإجرامية يتميز بالنسبية، غير أن ذلك لا يعفي اتخاذ التدابير الجنائية اللازمة
أن أغراض التدابير الجنائية يمكن استنتاجها من شروط تبني هذه التدابير يأخذ بها، والتي تلتقي في هدف واحد يتمثل في القضاء أو على الأقل من خطورة الإجرامية للمجرم عن طريق اعتماد مجموعة من الأساليب العلاجية.
فالتدابير الجنائية تستمد أهميتها بأن لها وقعا على شخصية المجرم ونفسيته خلال رميها تهذيب أخلاقه وتهدئة نفسه بعلاجها من الشذوذ الإجرامي، مع فتيل الخطورة الإجرامية الكامنة في نفس المجرم بمنحه مناعة يستمدها من ذاته تحول دون معاودته ارتكاب السلوكات الإجرامية المنحرفة
فالتدابير لا تسعى إلى تحقيق العدالة كما هو الشأن بالنسبة للعقوبة وإنما تهدف إلى علاج المجرم واقتلاع جرثومة الخطورة الإجرامية الكامنة فيه تحويله إلى فرد إيجابي يسهل عليه الإنصهار والعودة إلى بيئته الطبيعية ومحاكاتها والتفاعل معها بشكل إيجابي، فتأهيل المجرم هو الغاية والفلسفة التي تبتغيها التدابير الجنائية عن طريق اعتماد الأساليب العلاجية والتهذيبية الطبية و النفسية والعلمية التي قد لا تقتصر فقط في الحد من الخطورة الإجرامية، بل أيضا في تحقيق شروط التأهيل الاجتماعي بتحويل المجرم الشاذ إلى عضو نافع لنفسه ولمجتمعه، وبالتالي إدماجه في وسطه الطبيعي.
الفقرة الرابعة: أنواع التدابير الجنائية
تتخذ التدابير مجموعة من الأنواع بحسب موضوعها أو طبيعتها، فتنقسم من حيث موضوعها إلى تدابير شخصية وأخرى عينية، وتنقسم التدابير الشخصية إلى تدابير سالبة للحرية وتدابير مقيدة لها.
التدابير الشخصية السالبة للحرية هي التي تروم إيداع المجرم بأحد المصحات أو مستشفى الأمراض العقلية قصد معالجته وإيداع مدمن المخدرات بأحد مراكز العلاج، وإيداع الحدث بأحد مراكز الإصلاح والإيواء وإعادة التهذيب فهذه التدابير تضع قيودا على حرية المجرم طيلة مدة العلاج أو التهذيب
أما التدابير المقيدة للحرية فهي التي يمثلها الوضع تحت تدابير المراقبة القضائية مثل التدابير الواردة في المادة 161 من قانون المسطرة الجنائية التي تقيد حرية المتهم سواء في التنقل أو ممارسة بعض الأنشطة المهنية أو الاجتماعية أو التجارية أو الاتصال ببعض الأشخاص ناهيك عن سحب بعض الوثائق كجواز السفر أو رخصة السياقة.
أما التدابير الجنائية العينية فإنها تنصب على الأشياء المادية التي اعتمدها المجرم في جريمته مثل مصادرة الأشياء للمحكوم عليه ومصادرة وسائل النقل المستعملة في ترويج المخدرات وبيعها وإغلاق بيوت الدعارة.
فإذا نظرنا إلى التدابير الجنائية من حيث طبيعتها فيمكن تقسيمها إلى ما پلي :
– تدابير علاجية التي تعتمد فلسفة العلاج دون الإيذاء كإيداع المجنون في مستشفى الأمراض العقلية ؛
– تدابير تحفظية كالوضع تحت المراقبة القضائية وإغلاق بيوت الدعارة والمنع من السياقة بسحب رخصة السياقة، والمنع من مغادرة التراب الوطنی وسحب جواز السفر.
الفقرة الخامسة: الطبيعة القانونية للتدابير الجنائية
من أجل الوقوف على الطبيعة القانونية للتدابير الجنائية سوف نقوم بمقارنتها مع نظام العقوبة التي تلتقي مع التدابير في كونهما معا جزاءات قانونية.
– ينصرف التدبير الجنائي معالجة الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص الجاني، في حين تترتب العقوبة على الجريمة المرتكبة، أي جسامة الفعل الإجرامي؛
– يروم الجزاء الجنائي معالجة الجاني وتهذيب أخلاقه بهدف ضمان عدم ارتكابه الجريمة مستقبلا، في حين تنصرف العقوبة إلى تحقيق العدالة الجنائية بما يتناسب مع المجرم عن طريق إيلامه وإحساسه بالذنب؛
– فالعقوبة شر يمس الجاني في جسده أو حريته أو ماله بهدف ردعه وردع غيره، أما التدابير الجنائية فإنه يقصد كذلك الجاني ليس من حيث تحقيق الردع العام والخاص بل من اجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن الاجتماعي عن طريق اعتماد التاهيل والعلاج مما يمنح المجتمع وقاية من معاودة ارتكاب الجريمة ؛
– يتسع نطاق تطبيق التدابير الجنائية ليشمل المجانين والمرضى النفسانيين المختلين عقليا والقاصرين أي الأشخاص الذين قد لا تتوفر فيهم أهلية المساءلة الجنائية، في حين تقتصر العقوبة على المتهمين المتوفرين على الأهلية الجنائية
– إن سبب العقوبة هو خرق القاعدة القانونية، وإحداث الاضطراب الاجتماعي، في حين يتجلى سبب التدابير إلى الحد من الخطورة الإجرامية عن بريق اتخاذ إجراءات علاجية تأديبية وتهذيبية لمنع وقوع جرائم جديدة ؛
– من حيث الأساس الفلسفي لكلا الجزاءين، نجد العقوبة تتأسس على حرية الاختيار الذي يفترض تمتع الجاني بالإدراك والتمييز أثناء اقترافه الجريمة فتقوم مسؤوليته الجنائية التي تستلزم العقوبة، أما الأساس الفلسفي التدابير فيكمن في حجم الخطورة الإجرامية باعتبارها حالة نفسية كامنة في نفسية المجرم، لذلك وجب التفكير في وسائل أخرى توفر إمكانية استئصال الأسباب الكامنة وراء ارتكاب الجريمة ؛
– إذا كانت العقوبة تفترض التناسب مع الجريمة المرتكبة فان التدابير يجب أن تتلاءم مع الحالة النفسية المترتبة عنها الخطورة الإجرامية للمجرم، دون اعتماد بالأساس الموضوعي الذي هو الجريمة الواقعة، مما منح فسحة القضاء في اتخاذ التدبير المناسب، وإمكانية تبديله أو تعديله وفق ما تتطلبه الحالة العلاجية والواقعية التي يجب أن تكشف عن شخصية الجاني الحقيقية ومدی خطورته إن الأحكام الصادرة بشأن التدابير الجنائية تتطلب تنفيذا كوريا ولا تخضع لمنطق نظرية ظروف التشديد أو التخفيف أو إيقاف التنفيذ، في حين أن العقوبة تخضع لهذه الظروف مجتمعة.
أوجه التشارك بين التدابير الجنائية و العقوبات
وتشترك التدابير الجنائية مع العقوبات من حيث الأوجه التالية :
– مبدأ الشرعية: الذي يقتضي أنه لا يمكن اتخاذ أي تدبير فيه إلا بمقتضی نص قانوني الذي يحدد طبيعته وحالته تماما كما هو الشأن لقاعدة أن لا عقوبة إلا بنص
– مبدأ شخصية الجزاء: إن التدابير الجنائية تشبه العقوبة من حيث تطبيقها على الأشخاص المعنيين بها متى توفرت شروطها، وبالتالي فإن الجزاء لا يمكن أن يطبق إلا على الشخص الذي عينه الحكم بتحملها؛
– مبدأ النفعية: إذا كانت العقوبة تهدف منع وقوع الجرائم عن طريق الإيلام فان الجزاء يلتقي مع العقوبة في محاربة الجريمة عن طريق العلاج والتهذيب والتأهيل ؛
– مبدأ الجبرية : إذا كانت العقوبة تنفذ كرها على المحكوم عليه باسم المجتمع ولمصلحته، فان الجزاء الجنائي هو الاخر يطبق جبرا على المتهم حت يحقق أهدافه المرجوة المتمثلة في الحيلولة دون حصول جرائم في المستقبل
فالدور الوقائي هو ما يعرف بالسياسة الاجتماعية التي تسعى من خلالها الدولة في الاحتراز من أجل إزاحة أو على الأقل تخفيض الظروف الاجتماعية المساندة للجريمة
أما دورها القضائي فهو الموجه نحو الفاعل المجرم” باعتمادها وسيلة التأثير الفردي الحثة في العقوبة المحددة بناءا على معيار جسامة الفعل دون الاعتداد بشخص الفاعل.
وقد تطور هذا المفهوم مع المدرسة الوضعية الايطالية التي نقلت الضوء من دائرة الفعل إلى دائرة مرتكب الفعل أو بعبارة أخرى من دائرة الجريمة إلى دائرة المجرم ليبدا الاهتمام بشخص الفاعل وبخطورته الإجرامية لتحدث هذه المدرسة ثورة في وظيفة الجزاء الجنائي واسس تطبيقه وقدمت إلى جانب العقوبة ما يسمى بالتدابير أو بدائل العقوبة التي تعكس في جوهرها علاج الجاني كوسيلة أخرى تلعب دورها مع العقوبة في الكفاح ضد الجريمة خصوصا في الحالات التي تعجز فيها العقوبة باعتبارها وسيلة إيلام عن تحقيق الهدف المعلق عليها.
وجاءت أخيرا مدرسة الدفاع الاجتماعي الجديد التي قادها في فرنسا الرئيس “مارك أنسيل” Mark Anceil” لتعلن أن الدفاع الاجتماعي الجديد لا يجب أن يقف عند حد المطالبة بالاجراءات الوقائية لمعالجة المجرم بل أيضا في سبيل الكفاح ضد الجريمة بإيجاد الإجراءات لتحسين مستوى المعيشة والعمل على اعداد ما يكفل ملء الفراغ للشباب من خلال إيجاد ركائز نظام منطقي كامل و متكامل للكفاح ضد الجريمة.
فالسياسة العقابية تجاوزت الأدوار التقليدية المنوطة بالعقوبة من خلال التركيز على جانب الإيلام والإيداء لتحقيق الردع العام والخاص حيث كان ينظر إليها باعتبارها قصاصا يلحق المجرم إلى إيجاد سبل جديدة في التقويم كما هو الشأن للتدابير والعقوبات السالبة للحرية التي أثبتت نجاعتها لاسيما في بعض الجرائم خصوصا وان تأثير العقوبة متى كان قاسيا وفي جرائم بسيطة إن آثارها تمتد إلى محيط المجرم المتمثل في أفراد عائلته.
تذكر أنك حملت هذا المقال من موقع Universitylifestyle.net
لمناقشة المقال فى صفحة الفايسبوك اضغط هنا
أحدث التعليقات